تقدم السيدة نايلة تويني تجربة صحافية متميزة مستقاة من نبع التجربة السياسية الفريدة لصرح "النهار". ليس ذلك فحسب بل إنها تضيف عليه وتجدده. نجحت بنت جبران بشخصيتها القوية وفريقها المساعد في أن تعزز حضور الجريدة من خلال ابتكار أفكار متنوعة من "الكل في جريدة" ثم "النهار العربي" إلى ابتكار "أول رئيس من الذكاء الاصطناعي" للجمهورية اللبنانية.. أخيراً.
ثراء "النهار" المتجدد لا يرتبط بإرث السبق الصحافي فقط، إنما بإرث الفعل السياسي الشهير بـ "صنع رؤساء" و"عهود رئاسية" عبر حملات صحافية وسياسية، علاوةً على صداقات وعلاقات إنسانية مباشرة ربطت الجد غسان تويني ثم ابنه الشهيد جبران بمرشحي الرئاسة، من فاز منهم ومن خسر.. ومن قُتِل.
مقر جريدة "النهار" في سوق الطويلة ثم في منبى الطوابق التسعة من مبنى شارع الحمراء، شهد حضور بعض مرشحي الرئاسة وداعميهم ممن كانوا يتوافدون على مقر الجريدة، إلى أن تم "تحضير" الرئيس الاصطناعي في الطبقة الخامسة من مبنى "النهار" في ساحة الشهداء وسط العاصمة بيروت. حضور المرشحين ببرامجهم السياسية تلك الأيام، في مقابل شغور المرشحين وغياب برامجهم السياسية هذه الأيام، رغم العلل والطموحات الحاضرة بقوة، حفز على الاستعانة بالذكاء الاصطناعي ليخلق رئيسا للجمهورية اللبنانية المتعذرة رئاستها منذ 500 يوم، كما أمضت حوالى 880 يوما بلا رئيس قبل أن يصبح الجنرال ميشال عون رئيسًا مدة 2190 يومًا.
البرنامج المثالي للرئيس الاصطناعي لا يختلف كثيرًا عن برامج كل رئيس طبيعي غير اصطناعي ممن عرفهم الناس وعرفوا عهودهم مباشرةً أو بشكل غير مباشر من خلال مطالعة كتاب د. كمال ديب "عهود رئاسية" الصادر عن "دار النهار للنشر" الذي شرّح "أزمات وحقائق" تلكم العهود الجمهورية من الانتداب حتى "الانتحاب" مرورًا بالاستقلال والاحتراب، من جاؤوا بتوافقات إقليمية ودولية مع من غابوا لضرورات وطنية والتزموا المدة الدستورية وانتهوا غير منفذين برامجهم التي بدأوا واعدين بها ثم لم يصلحوا شيئًا مما أفسد الدهر وأهل الدهر اللبناني.
مع فائق الإعجاب باصطناع الذكاء الصحافي لرئيس جديد عله يعالج الداء المقيم من الزمن القديم، وتوضيح نايلة تويني لفكرة أن رئيس الذكاء الاصطناعي وإجاباته صنعها أرشيف "النهار"، ما يعني وجود حدود صنعها البشر. مع ذاك الإعجاب يرجع النظر إلى كلمات للأستاذ غسان تويني في "سر المهنة وأسرار أخرى" في سياق حديثه عن "صنع الرؤساء" وعهودهم، وبماذا استعانوا لإنقاذ عهودهم وحل أزماتهم، وقوله: "إن لتأييد النهار حدودًا واضحة" وإن صنعوه وأسهموا في صناعته كعهد صديقه الرئيس كميل شمعون.
في صيف 1958 استدعى الرئيس شمعون "الأسطول السادس الأميركي" إلى "إنقاذ لبنان" كما قيل يومئذ. وكتب تويني يومئذ عن الجيش المستعار للإنقاذ والتحرير قبيل توديع العهد الشمعوني: "إن من يأتي محررا يتحول مع الوقت إلى جيش احتلال يحمي مصالحه الحيوية التي لا دين لها. وإن الجيوش الأجنبية لن تحل القضية اللبنانية التي فتح ملفها على مصراعيه، بل هو عودة اللبنانيين إلى اتحادهم وحفاظهم على استقلال وطنهم".
عودة اللبنانيين وغير اللبنانيين إلى وطنيتهم وضمائرهم وعقليتهم الطبيعية تجنب الاستعانة بالذكاء الاصطناعي، وغيره من الوسائل. قد ينبهر من ينبهر بقدرة الذكاء الاصطناعي على ابتكار الإجابات استنادًا الى أرشيف صحافي ورصيد تاريخي سياسي وإنساني، لكنه لا يلغي مقدرة الإنسان على اجتراح حلول مشكلاته وأزماته وعلاج علله وأمراضه.
كسهولة الحرب على كل المتفرجين، سيبدو الحل بالذكاء الاصطناعي سهلًا، لرئاسة لبنان وصراعات اليمن وليبيا والسودان والعراق وسوريا، لكن العلة في لبنان مثلها في اليمن وليبيا والسودان والعراق وسوريا تبقى ماثلة بغياب الإنسان القادر على الذهاب الجريء والشجاع صوب تنفيذ الحلول وتجرع العلاج متغلبًا على "السر الصغير" الجامع بين كل المعتلين في هذه البلدان وهي مصلحتهم الخاصة التي خلقت العلل السياسية والأزمات الاقتصادي والارتهان للمحاور الخارجية والمزايدات السياسية.
يكمن العلاج في خفض سيطرة الغرور والغباء البشري على المشهد أكثر من الاستعانة بالتواضع والذكاء الاصطناعي.