حميد الكفائي *
تنفس العالم الصعداء بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وعقد الزعماء حينها العزم على منع اندلاع حرب جديدة، وتضافرت الجهود لوضع آليات ناجعة لحل الخلافات بين الدول سلمياً، وتجنب اللجوء إلى الحرب.
وأولى تلك الآليات هي الأمم المتحدة، كمظلة تناقش في ظلها الخلافات الدولية، ويكون مجلس الأمن، الذي ضم أقوى الدول حينئذ، المحرك الأساسي فيها، وأنشئت محكمة العدل الدولية عام 1945 لتكون الحَكَم النهائي في الخلافات الدولية.
ثم توالى بعد ذلك تأسيس الهيئات والمنظمات الثقافية والصحية والقانونية والمالية والاقتصادية والتجارية الدولية، كصندوق النقد والبنك الدوليين واليونسكو وأنكتاد والفاو وأسكوا وأونروا، وبرنامج الغذاء العالمي وبرنامج التنمية العالمي ومنظمة الهجرة العالمية، ومنظمة الصحة العالمية والمفوضية السامية لحقوق الإنسان، ومنظمة التجارة العالمية، وأخيراً المحكمة الجنائية الدولية.
وتلا ذلك تشكيل التجمعات الدولية بين الدول المتقاربة جغرافياً، أو سياسياً أو ثقافياً، كالاتحاد الأوروبي ونافتا وميركسور وآسيان ومنظمة عدم الانحياز والجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي والاتحاد الأفريقي، من أجل زيادة التقارب والتعاون بين الدول وحل الخلافات سلمياً.
ومن أجل تعزيز القدرة على ردع الاعتداءات المحتملة للدول القوية على الأضعف منها، أقيمت التحالفات العسكرية، كحلف الناتو وحلف وارسو (حُلَّ عام 1991)، وأنشئت وكالة الطاقة الذرية كي تضطلع بمهمة الحد من انتشار الأسلحة النووية، كما أقيمت تحالفات لتبادل المعلومات الأمنية، كتحالف "العيون الخمس"، و"العيون التسع"، و"العيون الأربع عشرة"، إضافة إلى منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، (OSCE) التي تضم 57 دولة.
لا شك أنها كانت إنجازات تسجل للعقلاء في المجتمع الدولي، لكن الحروب لم تتوقف، فالحرب الباردة، التي استمرت 40 عاماً، لم تكن باردة حقاً، إذ تخللتها حروب بالوكالة طالت ملايين البشر، وتسلُّح متسارع ومُكلِف. الحرب في فيتنام وكمبوديا ولاوس وأفغانستان، تورطت فيها أميركا وروسيا والصين، الأعضاء في مجلس الأمن، وراح ضحيتها الملايين، مدنيين وعسكريين.
كما اندلعت أثناءها حروبٌ رئيسية ثلاث في الشرق الأوسط، 1948 و1967 و1973، وحرب التحرير الجزائرية الدامية، والحرب العراقية - الإيرانية، التي فاقتها دموية وتدميراً، وحرب الفوكلاندز بين بريطانيا والأرجنتين، وحربا الخليج، الأولى والثانية، وحرب احتلال العراق، وحروب القارة الأفريقية في السودان والكونغو وإثيوبيا والصومال والصحراء الغربية واليمن.
وفي أوروبا اندلعت حروب البلقان، خصوصا الحرب الدامية بين صربيا والبوسنة والهرسك وكوسوفو، إثر تفكك يوغسلافيا السابقة. ثم نشبت حروب بين أذربيجان وأرمينيا، وروسيا وجورجيا، وأخيراً روسيا وأوكرانيا، و"حماس" وإسرائيل.
ولا يمكن إغفال الحروب الداخلية والأهلية في لبنان والعراق وسوريا ورواندا وإثيوبيا، فهي مدمرة أكثر من الحروب بين الجيوش النظامية. الحروب بالوكالة عادت مرة أخرى، تحركها هذه الدولة أو تلك، مستخدمة جماعات مسلحة ذات أيديولوجيات دينية، أو ارتزاقية كجماعة فاغنر، لتحقيق أهداف معينة، أو طموحات قادة يزدهرون على الحروب، ويتوهمون بأنهم في مأمن منها، رغم أنها مغامرات تحرق مشعليها في العادة، والأمثلة كثيرة، من هتلر وموسوليني، إلى غالتييري وميلوسيفيتش وصدام والبشير. ومن المحتمل أن تقضي مغامرة بوتين الأخيرة على طموحه ببناء إمبراطورية جديدة أو تنهي حكمه كلياً.
وتشير بيانات مؤشر السلام العالمي GPI إلى أن عدد قتلى الحروب خلال عام 2023، ارتفع بنسبة 96%، ليصل إلى 238 ألفاً، إذ شهد 79 بلداً في العالم تصاعداً في الصراعات المسلحة، بما فيها إثيوبيا وبورما وأوكرانيا وجنوب أفريقيا وإسرائيل وفلسطين (وهذا الرقم لا يشمل قتلى غزة، الذين فاق عددهم الأربعين ألفاً). وأشارت البيانات إلى أن عدد قتلى الصراع الدائر في إثيوبيا، يفوق الخسائر البشرية الأوكرانية.
الكلفة الاقتصادية للعنف في العالم تصاعدت بنسبة 17% عام 2023، حسب مؤشر GPI، أو فاقت تريليون دولار عن مستواها عام 2022، لتبلغ 17.5 ترليون دولار، أو 13% من الناتج الإجمالي العالمي. كما ازداد الإنفاق على التسلح في 92 بلداً، رغم أن 110 بلدان قلصت من عديد جنودها، ليس نتيجة لسيادة السلم، وإنما لاعتمادها المتزايد على المُسيَّرات والصواريخ المتطورة والأسلحة الفتاكة.
وتشير بيانات GPI، إلى أن 91 بلداً تنشغل حالياً في صراعات، مقارنةً مع 58 عام 2008. تكاليف الحروب باهظة، بشرياً واقتصادياً وسياسياً واجتماعياً. أوكرانيا، مثلاً، خسرت 450 مليار دولار منذ بدء الحرب، وهذا يعادل 64% من ناتجها الإجمالي، بينما هاجر أو قُتل 65% من شبابها، بين عمر 20-24 عاماً.
جيشا الصين والهند، العضوين في منظمة بريكس، التي يراد لها أن تكافئ التحالف الغربي، يتقابلان على الحدود، وقد اندلعت معارك حدودية محدودة بينهما، كان آخرها عام 2021، ولا يزال التوتر والتنافس الشديد يسودان العلاقات بينهما. الوضع بين الصين وتايوان مقلق، فالصين تتحدث عن "توحيد" البلدين بالقوة، وتشير توقعات إلى أن هذا "التوحيد" قد يحصل قبل انتهاء ولاية الرئيس شي جينبينغ الثالثة عام 2029.
إن أقدمت الصين على احتلال تايوان، فإن الكلفة التي يتكبدها العالم تقدر بـ2.7 ترليون دولار خلال عام واحد، أي ضعف الخسارة التي تكبدتها دول العالم جرّاء الأزمة المالية عام 2008، وأن 60% منها تتكبدها الصين وتايوان.
النمو الاقتصادي العالمي تراجع بعد الغزو الروسي لأوكرانيا عام 2022 نتيجة ارتفاع أسعار الطاقة. لكنه تعافى عام 2023، فنما بمعدل 3%، ومن المتوقع أن يتصاعد هذا العام، بينما يواصل معدل التضخم انخفاضه في الدول الصناعية، مع بقاء أسواق العمل نشيطة. وحسب مؤشر PMI، فإن النمو الاقتصادي ينتعش عالمياً، وأن معدل البطالة في مجموعة OECD لا يزال دون 5%!
لكن الوضع ليس مطمئناً في اقتصادات مؤثرة عالمياً كالصين، التي تعاني تباطؤاً اقتصادياً متداعياً، بينما بدأت ألمانيا تستشعر تأثيرات ارتفاع أسعار الطاقة خلال العامين المنصرمين. بريطانيا هي الأخرى لم تتعافَ رغم انخفاض معدل التضخم دون 4%.
هجمات الحوثيين على السفن التجارية في البحر الأحمر بدأت تؤثر اقتصادياً على أوروبا، بسبب التأخر في وصول إمدادات الطاقة والمواد الأولية من آسيا، التي بدأت تسلك طريق رأس الرجاء الصالح، بدلاً من اختزال المسافة عبر البحر الأحمر.
الأوضاع القلقة حالياً يمكن أن تتدهور، إن تفاقمت الصراعات الحالية أو اندلعت حروب جديدة. الحرب بين روسيا وأوكرانيا قد تتسع لتشمل دولاً أخرى. الحرب في غزة خطيرة جداً وتنذر بالاتساع، خصوصاً بعد الهجمات المتبادلة بين إسرائيل وإيران، التي صارت الآن مباشرة بعدما كانت بالوكالة. وإن أقدمت الصين على احتلال تايوان، فإن هذا سيقود حتماً إلى تدخل عسكري أميركي إلى جانب تايوان، لأن القانون الأميركي يضمن حماية تايوان.
وللحديث بقية...
*كاتب عراقي