النهار

"ثقب أسود"... الأمن الغذائي العربي في مرمى الخطر!
محمد حسين أبو الحسن
المصدر: النهار العربي
حذرت دراسات أعدتها هيئات دولية، كمنظمة الأغذية والزراعة "الفاو"، من أن ارتفاع أسعار الغذاء يمكن أن يقود إلى نتائج مروّعة: اندلاع الحروب والاضطرابات الاجتماعية، تعرض مئات الآلاف من البشر لخطر المجاعة
"ثقب أسود"... الأمن الغذائي العربي في مرمى الخطر!
مساعدات من برنامج الأغذية العالمي تصل إلى إقليم دارفور السوداني.
A+   A-

يعد توفير الغذاء أحد أخطر التحديات أمام البلدان العربية، والأزمات الدولية المتلاحقة، مثل مشكلات الاقتصاد العالمي، كورونا، الحرب الروسية - الأوكرانية، بكل انعكاساتها السلبية على إمدادات مستلزمات الإنتاج الزراعي ورفع أسعار الأغذية، خاصة أن الدول العربية تعتمد على الخارج في توفير الاحتياجات الغذائية لشعوبها. تتسع الفجوة الغذائية العربية، تترك تأثيرات حرجة سياسياً واقتصادياً، على دول تعاني اضطرابات سياسية أو أزمات اقتصادية، حتى لو وُجدت الأموالُ فإنها لا تضمن توفر الغذاء أحياناً!

هياكل متخلفة
يعتبر تراجع أو انعدام الأمن الغذائي معضلة حقيقية، تطرح نفسها بحدة في عدد من دول العالم، بخاصة النامية - ومن بينها غالبية الدول العربية - ذات الهياكل الاقتصادية المتخلفة والقدرات الإنتاجية الضعيفة، في ظل التغيرات المناخية، والزيادة السكانية التي لا يرافقها زيادات موازية في الإنتاج الزراعي؛ ما يخلف آثاراً تتبدى في هـشاشة الوضع الذي يعيشه مئات الملايين من البشر وبقائهم معرضين باستمرار إلى المزيد من الفقر والجوع، وربما الهلاك المعنوي والمادي. انظر إلى اليمن والصومال وغزة وسوريا والسودان، إلخ...

حذرت دراسات أعدتها هيئات دولية، كمنظمة الأغذية والزراعة "الفاو"، من أن ارتفاع أسعار الغذاء يمكن أن يقود إلى نتائج مروّعة: اندلاع الحروب والاضطرابات الاجتماعية، تعرض مئات الآلاف من البشر لخطر المجاعة؛ ونبهت الدراسات إلى أن التنمية التي تحققت خلال السنوات العشرين الماضية يمكن أن تتعرض للتدمير، وأوضحت بجلاء أن العالم العربي يعاني تدهوراً وعجزاً غذائياً خطيراً؛ يستورد الجزء الأكبر من احتياجات شعوبه من الأغذية من الخارج، ما يصيب الأمن الغذائي العربي في مقتل.

قبل عقود، عرّف الاقتصادي البارز الدكتور رمزي زكي - في دراسته "الاقتصاد العربي تحت الحصار" - الأمن الغذائي بأنه "مدى الاطمئنان إلى قدرة الاقتصاد القومي على إشباع الاحتياجات الغذائية للسكان حاضراً ومستقبلاً، سواء أكان ذلك من خلال الإنتاج المحلي أم من خلال القدرة على الاستيراد". وأضاف أن "أحداً لا يشك في وجود علاقة وثيقة وعضوية بين الأمن الغذائي والأمن القومي؛ ولذلك فإن فقدان الأمن الغذائي أو ضعفه ثغرة خطيرة في بنيان الأمن القومي".

التبعية الغذائية
وأكدت دراسة أعدتها "الجمعية المصرية للاقتصاد الزراعي"، أن المشكلة الرئيسة التي تواجه المجتمع العربي هي توفير الحد الأدنى من الاحتياجات الغذائية؛ الإنتاج العربي من الغذاء لا يكفي احتياجات أكثر من ثلثي سكان المنطقة، بسبب تفاوت الموارد الزراعية بين الدول العربية وضعف الهياكل الزراعية وضعف الاستثمارات في مجال الزراعة وإنتاج الغذاء، وتشير التقديرات إلى أن القطاع الزراعي العربي يسهم بنحو 15% من الناتج المحلي الإجمالي، ويستوعب نحو 30% من الأيدي العاملة، وأن الفجوة بين إنتاج الحبوب واستهلاكها عربياً تصل إلى نحو 40 مليون طن سنوياً؛ ما يكفي للتدليل على مدى التبعية المتزايدة في المجال الغذائي، وعلى حجم الخطر في المستقبل؛ إذا لم تعمد الدول العربية إلى تحقيق قدر من الاستقلال الغذائي، عن طريق زيادة الإنتاج لديها.

توقعت الدراسة ارتفاع الإنتاج العربي من الحبوب إلى 64,5 مليون طن وزيادة الطلب عليها بنحو 133 مليون طن في غضون عام 2028، بمعنى ارتفاع العجز الغذائي. الخطورة الحقيقية تتمثل في أن الاحتياجات السنوية تتصاعد باطراد، لمواجهة الزيادة في عدد السكان والارتفاع في معدل استهلاك الفرد؛ نتيجة لارتفاع معدل الدخل، فمن المتوقع أن يقفز عدد سكان العالم العربي - حسب الإحصائيات الرسمية - إلى 480 مليون نسمة عام 2030، وهو ما يجعل تبعيته الغذائية تتصاعد. معضلة لا يمكن أن تتجاهلها أي دولة عربية تحت أي مبرر، في ظل أزمة نقص الحبوب في العالم.

وبحسب التقرير الاقتصادي العربي الذي يصدر عن الأمانة العامة لجامعة الدول العربية فإن المنطقة العربية صاحبة "أكبر عجز غذائي في العالم"، وأن أكثر من 80 مليون عربي لا يحصلون على الغذاء المناسب، فالفجوة الغذائية تزداد، وهي الآن بحدود 50 مليار دولار، ويمكن أن ترتفع إلى 70 مليار دولار عام 2030، لأننا لا نحقق الاكتفاء الذاتي أي "النسبة بين الإنتاج من الغذاء والطلب الكلي عليه".

ولهذه الأسباب، قدّر "البنك الدولي" أن نحو 8 ملايين طفل في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، عانوا انعدام الأمن الغذائي في عام 2023، بينما كشفت دراسة أصدرها "صندوق النقد العربي"، تناولت 14 دولة عربية، بعنوان "الأمن الغذائي في الدول العربية: التداعيات الاقتصادية ودور السياسات الكلية" عن أن قطر تحتل المركز الأول بين الدول العربية من حيث وفرة الغذاء والقدرة على تحمل التكاليف وتوفير الموارد الطبيعية، واحتلت مصر المركز الحادي عشر، فيما جاءت اليمن في المركز الرابع عشر والأخير.

عواصف جيوسياسية
ونبهت الدراسة إلى أن مفهوم الأمن الغذائي يرتكز على أربع ركائز هي: الوفرة، والاستقرار، وإمكانية النفاد، وكيفية الاستخدام. ويتطلب تحقيق كل ركيزة تبني سياسات محددة، مشيرة إلى أن الفجوة الغذائية بالوطن العربي اتسعت، وأصبحت الدول العربية تستورد نسباً مرتفعة من احتياجاتها الغذائية، وانخفض نصيب الفرد من الناتج الزراعي 29 في المئة خلال العقد المنتهي في عام 2020؛ ليصل إلى 329 دولاراً في عام 2020، مقابل 465 دولاراً عام 2010.

وأشارت الدراسة إلى تعاظم مخاطر انعدام الأمن الغذائي في العالم؛ أما بالنسبة للبلدان العربية فإن الأمن الغذائي يعد من التحديات الرئيسية. إنها منطقة العجز الأكبر، فعلى الرغم من توافر الموارد البشرية، فإن القطاع الزراعي في الدول العربية لم يحقق الزيادة المستهدفة في الإنتاج لمقابلة الطلب، وباتساع الفجوة الغذائية أصبحت الدول العربية تستورد نصف احتياجاتها من السلع الرئيسية. كما تعرضت هذه الدول لتقلبات الأسعار بالسوق الدولية، سواء في أزمة الغذاء العالمي عامي 2006 و2007، أو في أزمة التغيرات المناخية عام 2010، أو أزمة كورونا 2020 حيث ارتفعت أسعار الغذاء على نحو ملحوظ، بنحو 35% خلال عام 2021، أو خلال الحرب الروسية - الأوكرانية راهناً. أيضاً نبهت الدراسة إلى أن القطاع الزراعي في عدة دول عربية يواجه تحديات تتعلق بالتمويل، من المؤسسات المالية المصرفية وغير المصرفية، إذ تلعب مخصصات الإنفاق العام على مشاريع التنمية الزراعية دوراً مهماً في تعزيز الإنتاجية.

وتؤثر "العواصف الجيوسياسية" في جنبات المنطقة وما حولها على الإمدادات الغذائية، ومن ثمّ تلقي بظلالها على اقتصادات الدول العربية والأوضاع السياسية والاجتماعية فيها، ما يجعل الفجوة الغذائية "نقطة الضعف الكبرى" لدى البلدان العربية أو "الثقب الأسود" أو "صندوق البندورا" الذي قد تنطلق منه كل الشرور.

من أجل ذلك، أوصت الدراسة بضرورة تبني سياسات فعالة؛ من شأنها تنمية القطاع الزراعي وتشجيع الإنتاج المحلي، ومراقبة أسعار السلع الأساسية، ومكافحة التهريب والاحتكار، وتعزيز دور شبكات الأمان الاجتماعي؛ سعياً لتقليل الفجوة الغذائية إلى الحد الأدنى؛ فمن لا يملك خبزه لا يملك قراره، وشواهد التاريخ البعيد والقريب تقطع بذلك.

وذاك حديث آخر...

اقرأ في النهار Premium