"تاريخٌ يُقلِقُه حكمُ التاريخ.." هكذا علق من سمع أن رائد الإعلام السعودي الشيخ جميل الحجيلان (97 عاماً) يساوره القلق مما سيقوله التاريخ عنه. القلق لازمة طبيعية لمن ينشد الكمال والتميز في عمله، والتفرد بالتميز الذي حازه بدأب شديد إلى حد التعب من أجل رفعة وطنه بعون قيادته، كي ينعم أبناؤه وكل أبناء وطنه بالراحة والثقة في تطور بلدهم واستقراره.
على قناة "روتانا خليجية" خلال شهر رمضان المنصرم 1445هـ، أواخر آذار (مارس) 2024، لذاكرة الرجل الكبير جميل الحجيلان والإعراب عن قلقه، فُتِحَت أبواب كبيرة بأسئلة "واحد من خيرة المحاورين الإعلاميين السعوديين والعرب" عبد الله المديفر في سادس مواسم برنامجه المميز "الليوان"، لكن المديفر وجد "ليوانه" مغموراً بما فاض به "خزان" التاريخ السعودي الممتلئ وداً إنسانياً وإخلاصاً وطنياً وأمانةً وموضوعية تاريخية، بعدما أنشأ في وزارة الإعلام قنوات تصب فيها سريعاً فعاليات الحوادث اليومية بينما اختزن هو، ليوم آخر، ما وراء تلك الفعاليات من ذكريات وتفصيلات تملأ سِفر "السيرة المنتظرة"، بحسب المؤرخ السعودي المنصف وكاتب السير العربية محمد بن عبد الله السيف: "إن السيرة التي كتبها الشيخ جميل الحجيلان هي أوفى وأشمل سيرة ذاتية قرأتها لمسؤول سعودي رفيع، وهي أرقى وأمتع سيرة ذاتية قرأتها لسياسي ورجل دولة عربي".
الاحتفاء الدائم بسيرة شيخ الإعلاميين والدبلوماسيين السعوديين جميل الحجيلان يخالف القول المأثور الذي يصح حيناً ويبطل أحياناً:
إذا ذهب الجيلُ الذي أنت مِنهُمُ .. وخُلِّفتَ في جيلٍ فأنت غريبُ
لأنه وقر أساتذته وكباره من الجيل السابق، تراه كل يوم محل تكريم بنيه من الجيل اللاحق، من خلفائه في الإدارة والسفارة والوزارة. تعتز بلقائه القنوات، وتهفو لنشر مذكراته دور النشر. يشع حيث يكون، ويتألق حين يصغون، وإلى دوره يشير المهتمون بتطورات المملكة على النحو الوارد في كتاب مروان إسكندر "السعودية: الإرث.. المستقبل" (دار النهار للنشر) أن جرى "الانفتاح على المقابلات مع ممثلي الصحافة الدولية بتشجيع من وزير الإعلام الشيخ جميل الحجيلان".
من باب ذكر "الجميل" من الشيخ جميل الذي لا يُذكَر عنه إلا كل جميل منذ عمل في سفارات بلاده لدى طهران وإسلام آباد أول الخمسينات إلى تقاعده أول الألفينات عن العمل بعد توليه الأمانة العامة لمجلس التعاون لدول الخليج العربية في الرياض دورتين اثنتين. تحدث عمن واكب عهودهم من الملوك والأمراء من بعد التأسيس والتوحيد حتى شهد التجديد، وواتته مناسبات عدة للتعرف عن قرب إلى أُبوة عبد العزيز، طيبة وكرم سعود، قوة وهيبة فيصل، جود خالد، مرونة فهد، مبادرة عبد الله، حزم سلمان ورؤيوية ابن سلمان. وأورد صدى قصصه عن مواقفهم معه، وبحضوره.
تطرق إلى رجوعه منتصف السبعينات إلى المربع العملي الأول: السلك الدبلوماسي سفيراً في ألمانيا الغربية لسنتين ثم فرنسا لعقدين، بعدما أرهقت صحته وزارة الصحة التي تولاها أربع سنين إلى جانب عمله وزيراً للإعلام بالنيابة مدة سنة فغدا "ذا الوزارتين". وشرح ظروف اختياره لإدارة الإذاعة والصحافة والنشر قبيل تعيينه أول سفير للمملكة العربية السعودية لدى دولة الكويت لثلاث سنين 1960 - 1963 ولنشاطه وفاعليته هناك رجحت تسميته أول وزير للإعلام في حكومة الشباب برئاسة الأمير فيصل أواخر عهد الملك سعود. وكانت خطوات تطوير الإعلام وانفتاحه بإذاعة أصوات نسائية سعودية من أدوات التحديث لتلك الحكومة، بحسب تغطية صحيفة "نيويورك تايمز".
من أهم ما حكى الحجيلان من مواقف دالة إلى ثقة واعية بالنفس واطمئنان إلى سلامة النهج وثبات الأسس، يصحبه سعي حثيث صوب صونه وتطويره، ما دار من حديث بينه وبين - الأمير يومئذ - الملك فيصل عندما استدعى السفير الحجيلان ليطلعه على تسليمه مقود جبهة الدفاع والصد لهجمة الحملات الإعلامية الضارية على الرياض من جانب القاهرة عقب انفصال دمشق ثم ثورة صنعاء أول الستينات. في لقائه التلفزيوني (آذار 2024) لم تنأَ عن أبي عماد تفاصيل ما يسميه "لقاء العمر" (آذار 1963) وأنه أجاب على اختياره بحيثيات قبوله ومنها "اليقين بأن استقرار كيان المملكة رهن بوجود أسرة آل سعود". ثم يندهش لتعقيب الفيصل: "لو كنت أعلم أن وجود هذه الأسرة ليس في مصلحة الأمة، لكنت أول من حمل السيف عليها".
لم تك تلك المرة الأولى التي يشهر الأمير فيصل فيها قوله الفصل هذا؛ إذ سبق وأشهره بوجه الرئيس الأميركي جون كينيدي في واشنطن يوم التقيا (5 تشرين الأول/أكتوبر 1962) لبحث مجريات الأحداث في اليمن الذي أقر فيصل بسوء أوضاعه قبل ثورة أيلول (سبتمبر) وما صار إليه من وضع ينذر بحرب أهلية وتدخل خارجي مثير للمخاوف. ومع التنويه الأميركي بالتقدم المحرز سعودياً في جوانب التطوير والتحديث، ركز الأمير فيصل خلال المحادثة على رغبته في المضي قدماً وسط هذا المضمار في محيط مستقر غير مضطرب لأي سبب. مذكرة المحادثة بين الرئيس الأميركي وولي العهد السعودي سردت ما جاء على لسان الأخير "بحماسة شديدة، صرح فيصل أنه إذا راودته – ولو للحظة واحدة - فكرة أن الأسرة الملكية السعودية أو وجودها بالسعودية يضر بمصالح بلده أو شعبه، وبرغم أنه من أفرادها، فإنه سيقف ضدها".
بهذه الثقة والمواءمة بين متطلبات العصر ومراعاة مصالح المحكومين، والأخذ بأسباب التطور والتحديث - حتى الآن - تُشع إشارة الشيخ الحجيلان لكل لبيب أنه بينما تنهار كيانات وتتبدل أوضاع تبقى السعودية طوداً صامداً وقبلةً عالمية، يسجِل لها وعنها التاريخ ذلك ويرويه.. مطمئناً. فيطمئن أبو عماد بتاريخه ولا يقلق مما سيقوله التاريخ عن بلده.. وعنه أيضاً.