لا يقل "التناول الفكري" أهمية عن "المواجهة الأمنية" في تجفيف منابع الجماعات التكفيرية واقتلاع جذورها من العمق المجتمعي، من خلال إعادة تصحيح مفاهيم الدين والتدين، التي احتلها أتباع التيارات الأصولية المتطرفة، واختزلوها واستبدلوا بها مفردات وأدبيات تتلاقى مع مشروعهم الفكري والسياسي.
رغم غياب ملامح "المشروع الفكري" على مستوى المؤسسات الرسمية ودوره في تفنيد المغالطات السياسية والفقهية والشرعية، لجماعات الإسلام الحركي، فإن الإعلام المصري يخوض أخيراً معركة مباشرة مع "التيارات الأصولية" في إطار تفكيك أطروحاتها التي اعتمدتها ومررتها على مدار تاريخها المعاصر، كتأصيل لفهم مقاصد الشريعة.
الأيام الماضية ربما هي الأكثر سخونة في إطار حالة الصدام المباشر بين أتباع الرؤية السلفية، وممثلي المدرسة الصوفية، في ظل خريطة إعلامية رسمية، حافلة ببرامج محملة بمنهجية أشعرية علمية، تعمل على تفريغ الظهير الداعم للدوائر السلفية، وتفكك منطلقاتها الفكرية، من خلال قنوات الشركة "المتحدة" للخدمات الإعلامية وبرامجها، وعلى رأسها قناة "الحياة" التي أنتجت برنامج "مملكة الدراويش" الذي قدمته الإعلامية قصواء الخلالي في موسمه الأول.
حاورت قصواء من خلال حلقات "مملكة الدراويش"، عدداً من رموز الصوفية العلمية، وعلى رأسهم المفتي الأسبق الدكتور علي جمعة ورئيس جامعة الأزهر الأسبق الدكتور أحمد عمر هاشم، والمستشار الديني لرئيس الجمهورية الدكتور أسامة الأزهري، وأمين الفتوى في دار الإفتاء المصري الدكتور عمرو الورداني، وعضو هيئة كبار العلماء في الأزهر الشريف الدكتور عبد العزيز الشهاوي، وأستاذ الشريعة والقانون في جامعة الأزهر الدكتور محمد مهنا، والأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية الدكتور نظير عياد.
حرك برنامج "مملكة الدراويش" المياه الراكدة حول اختزال المفاهيم الدينية في حيز الرؤية الأصولية، وتلاعب أصحاب "التدين الكمي"، ودورهم في صناعة "التغيب المجتمعي"، وفق ما يعرف بـ"مثلث التطرف الديني" الذي يشمل "دليل المظلومية"، و"المشروع البديل"، و"فلسفة المخلص"، وتعتمد عليه الجماعات الإرهابية في بناء قاعدتها التنظيمية، تمهيداً لمشروع "التمكين" والوصول إلى سلطة الدولة، وفقاً لما طرحه الدكتور عمرو الورداني.
تناولت مائدة قصواء الخلالي الشبهات العقائدية التي استُعملت طعناً في عقيدة أهل التصوف ومذهبهم، مثل التوسل والتبرك، ومحبة آل بيت النبي صلي الله عليه وسلم وزيارتهم، واستحباب الدعاء بقربهم، وجواز الصلاة في مساجدهم، ومسالك التربية الروحية، والرد على افتراءات الاستعانة بهم من دون الله، أو جعلهم نداً لله عز وجل كذباً وزوراً.
عمدت قصواء في "مملكة الدراويش" إلى التبحر في علوم الرسالة القشيرية التي تضمنت طرق التصوّف ومقاماته وأحواله، وألّفها أبو القاسم القشيري، مسلطة الضوء على منهجية المذهب الأشعري، وصفائه الروحي والسلوكي، وطبيعة التفكير النمطي للتيارات الأصولية وممارستها التكفير عملياً، واختزالها المفاهيم الدينية مثل "أهل السنة والجماعة"، و"أهل السلف"، و"البدعة"، فضلاً عن تحريفها "أصول علم العقيدة"، و"أصول علم الفقه"، وصوغها نمطاً من التدين الظاهري المخالف في حقيقته للهدي النبوي، ودور الاعتدال الديني المصري التاريخي، في مواجهة الإرهاب الفكري.
كذلك في إطار المواجهة الفكرية المباشرة التي يخوضها الإعلام المصري، تحولت خريطة قناة "الناس" إلى منبر يقدم رسالة روحية وسلوكية رصينة ومعتدلة، بعدما شاركت لسنوات طويلة في صناعة "الإمبراطورية السلفية" في الشارع المصري، وقد حظيت بعدد من البرامج التي حملت صبغة السهل الممتنع في تقديم خطاب علمي بسيط، يخاطب وجدان الجماهير المتنوعة وعقليتها من البسطاء والعوام والمثقفين معاً.
ردود الفعل وحملات التكفير التي قادها أتباع التيارات الأصولية السلفية تجاه رموز الخطاب الصوفي العلمي، جاءت هذه المرة أشد شراسة على مواقع التواصل الاجتماعي التي احتلتها ونقلت إليها معركتها في السيطرة على الشارع بعد التضييق على أبواقها ومساجدها، لمجموعة من الأسباب، أولها، تراجع مكانة المرجعيات السلفية التقليدية والحركية في عمق الشارع المصري، أمثال الشيخ محمد حسان، والشيخ محمد حسين يعقوب، والشيخ أبو إسحاق الحويني، والشيخ مسعد أنور، والشيخ محمد عبد المقصور، والشيخ مصطفى العدوي، والشيخ محمود المصري، والشيخ حازم شومان، والدكتور ياسر برهامي وغيرهم.
ثانيها، اعتماد المذهب الأشعري الصوفي العلمي ورموزه، مرجعاً للجمهورية الجديدة على المستوى السياسي والشعبي والإعلامي، بعدما ظلت تيارات الإسلام السياسي والأصولي، من أدوات معادلة الحكم، إبان نظامي الرئيسين مبارك السادات، ومنحهم مساحة من التحرك والنشاط المتزايد والسيطرة على المساجد، وبناء قواعد جماهيرية، وتلقيهم تمويلات تحمل في باطنها غطاءً سياسياً من الدول الراعية للمذهب الوهابي.
ثالثها يتمثل في أفول المنهجية السلفية التقليدية والنصية التي استُخدمت عمداً في تشوية الهوية الفكرية والثقافية للدولة المصرية على مدار أكثر من 50 عاماً، في مقابل تصحيح الصورة الذهنية المغلوطة عن المدرسة الأزهرية الأشعرية الصوفية، وتوظيفها عملياً في تحجيم تيارات الإسلام السياسي، وتجفيف منابعها الفكرية.
رابعها، تظاهر المنصات والمواقع التابعة للتيارات السلفية، بقوتها وتأثيرها في الشارع، وقدرتها على الاحتفاظ بحاضنة شعبية داعمة لمنهجيتها ورافضة للخطاب الأشعري الصوفي، ويمكن استخدامها في الدفاع عن منطلقاته الفكرية، مع محاولة الاحتفاظ بكتلتها الحرجة في ظل خفوت المشروع الأصولي وسقوطه سياسياً.
خامسها يتمركز في فك الارتباط بين "التدين الشعبي" أو التقليدي، والمزاج السلفي العام والأصولي، وإعادته إلى نطاق "التدين المصري"، المتسم بسعة الرؤية والتنوع، والمتسق ذاتياً مع روح التصوف وسلوكه العلمي المعتدل.
رغم توسع التيارات الأصولية في بناء شبكتها عبر الفضاء الإلكتروني، فإن عملية التحول في أجندة الإعلام المصري، وانتقالها إلى ساحة تفنيد أطروحات جماعات الإرهاب وتفكيكها، والتركيز على تقديم البديل الفكري الوسطي، تمثل نقطة البداية الحقيقة في انتزاع ظاهرة "التطرف الديني"، الصاعدة بتوسيع حظوظ "التيارات السلفيّة"، والتي هيأت الأرضيّة الخصبة لـ"الإسلام السياسيّ"، وغيرت وبدلت ملامح المفاهيم الشرعية، واحتلت وطمست معانيها المعتدلة.