علي الصراف
عندما يجهر الرئيس الأميركي جو بايدن بأنه "صهيوني"، فإنه لا يقول شيئاً استثنائياً أو مستغرباً في الولايات المتحدة. سبقه إلى ذلك جيمي كارتر (الرئيس التاسع والثلاثون بين عامي 1977 و1981) ورونالد ريغان (الرئيس الأربعون بين عامي 1981 و1989). أما "أبو الصهيونية" في الولايات المتحدة، فهو لقب يعود إلى توماس وودرو ويلسون (الرئيس الثامن والعشرون بين عامي 1913 و1921).
المصدر الرئيسي للصهيونية المسيحية يعود إلى البروتستانتية التي رافقت تأسيس الدولة الأميركية في القرن السابع عشر. ما يعني أنها أكثر "أصولية" عقائدية من الصهيونية اليهودية نفسها. وهي أقدم من "الحركة الصهيونية" التي قادها ثيودور هرتزل. بل إنها أكثر "أصالة"، بالمعنى الديني، من صهيونيته العلمانية.
المؤتمر الصهيوني الأول الذي انعقد في بازل في أيلول (سبتمبر) 1897، يكاد يكون مشروعاً هامشياً، و"حداثياً" حيال العقيدة المسيحية الصهيونية التي تشكل فكرة إنشاء "وطن قومي لليهود في فلسطين" جوهراً لضمان "عودة المسيح الثانية".
هرتزل كان يريد بناء دولة يهودية أينما كان (من أوغندا إلى الأرجنتين)، لأسباب تتعلق بحماية اليهود، وليس انتظاراً لعودة المسيح.
كتب بعد محاكمة الضابط اليهودي درايفوس في عام 1894 بتهمة الخيانة يقول: "فرنسا معقل التحرر، والتقدم، والاشتراكية العالمية يمكن أن تتعثر في عاصفة من معاداة السامية حيث يهتف الحشد الباريسي "الموت لليهود". الاندماج لن يحل المشكلة لأن العالم غير اليهودي لن يسمح لهم".
تعود نشأة الصهيونية المسيحية إلى القرن السابع عشر. وهي تقوم على الاعتقاد بأن خروج اليهود من فلسطين كان عقاباً لهم على صلب المسيح، وأنهم يجب أن يعودوا إلى هناك، ليس فقط لأنهم "شعب الله المختار" كما اعتقدت "حركة الإصلاح الديني" في أوروبا، بل أيضاً لإرساء السبيل لأحد اتجاهين، انقسمت على أساسهما تلك الصهيونية المسيحية في القرن التاسع عشر، وهما إما أن يصبح اليهود مسيحيين لكي تمكنهم العودة إلى فلسطين، وهي الفكرة التي كانت سائدة في بريطانيا. وإما أن يعودوا كيهود قبل أن يتحولوا إلى المسيحية، وهي الفكرة التي قادها القس جون نيلسون داربي، الأب الروحي للمسيحية الصهيونية الأميركية. والهدف النهائي واحد، على أي حال، وهو انتظار عودة المسيح.
هناك، إذاً، سياق "ديني" أصولي، هو الذي يجعل "الدفاع عن إسرائيل" مشروعاً مقدساً بالنسبة إلى الولايات المتحدة وبريطانيا وغيرهما من الدول الغربية التي التحقت به انطلاقاً من ارتباطات ثقافية وسياسية ومصالح اقتصادية.
لكن هناك سياقاً آخر. يمكن أن يفهم من اندماجه بالسياق الديني، سبب الدفاع الغربي المستميت عن إسرائيل.
الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي الذي يتساءل الآن: "لماذا لا تدافعون عن أوكرانيا كما تدافعون عن إسرائيل"، لم يلاحظ، رغم أنه يهودي، أن أوكرانيا هدف "جيوسياسي"، لا قدسية فيه، من نتائج تفكك الإمبراطورية السوفياتية، بينما الدفاع عن إسرائيل، هدف أصولي مقدس، ويرتبط في الوقت نفسه، بصعود "المشروع الحضاري الغربي" ونظامه الرأسمالي، وهيمنته الدولية، حتى لكأن أحدهما بات صنواً للآخر.
تجرؤ إسرائيل اليوم على أن تفعل ما تشاء في غزة. تجرؤ أيضاً على أن تنتهك القانون الدولي، وتسخر من قرارات مجلس الأمن. حتى لتبدو كأنها دولة فوق القانون. بل حتى لتبدو كأنها تحكم العالم، من الطرف الخفي لعودة المسيح الذي سوف يحكم العالم لألف عام.
دول الغرب التي ألزمت نفسها بإحدى السرديتين الصهيونيتين، الدينية والعلمانية، أو كلتاهما معاً، قد تبدو كأنها القوة الأعظم، من النواحي الاقتصادية، والعسكرية والتكنولوجية والثقافية. إلا أن هذه القوة تصغر وتتضاءل أمام "قدسية" الدفاع عن إسرائيل.
تُمسك إسرائيل بعصب المقدس، بما يجعل كل قادة هذا الغرب يصابون بالعمى عندما ترتكب إسرائيل أعمال إبادة جماعية. وهم يتجاهلون، بطبيعة الحال، كل البديهيات، من قبيل أنها دولة احتلال، وأنها تنتهك القواعد الإنسانية والأخلاقية في التعامل مع ملايين الفلسطينيين الخاضعين لاحتلالها. وهم لا يرون قطعاً، أن تلك الأعمال تتجاهل معاهدة جنيف الرابعة حول قوانين الحرب.
إسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم التي لا تعرف حدودها. وهي تتوسع كما تشاء، وتحظى بالصمت والتغافل من جانب "المجتمع الدولي" الذي يتمتع الغرب بنفوذ ساحق عليه. ثمة "نداء ديني" يقف خلف الجغرافيا المبهمة. وعلى هذا الأساس، صار بوسعها أن تضم مرتفعات الجولان السورية، وتكسب مصادقة البيت الأبيض، في استعادة ساخرة للقول القائل: "أعطى مَنْ لا يملك، لمَنْ لا يستحق". ولكن الأمر أبعد من هذا النطاق. لأنه كان بمثابة استهزاء فعلي بميثاق الأمم المتحدة. ومثلما كان الوعد بإنشاء دولة يهودية على أرض فلسطين استئنافاً معاصراً للحروب الصليبية، فإنه سمح لمَنْ لا يملك بأن يُعطي مَنْ لا يستحق، بفائض القوة التي ظهر عليها الاستعمار العالمي ما بعد الحرب العالمية الثانية.
ليست المجازر التي تُرتكب الآن ضد غزة، سوى جزء من تاريخ مجازر مديد. وفي الواقع، فإنه ما من دولة في العالم ارتبط وجودها بعدد ما ظلت ترتكبه من المجازر مثل إسرائيل. وجودها قائم على أنهار الدم التي سُفكت منذ عام 1948 حتى الآن. والنهر لا يزال يتدفق، وكأن هذا الكيان لا يجد سبيلاً للبقاء من دون أن يستقي منه. أصبحت المجازر، بعبارة أخرى، شرطاً مسبقاً من شروط الوجود. ما يجعل أي مقاومة للاحتلال "تهديداً وجودياً لإسرائيل".
ما يهم في هذا الواقع، هو أن الغرب، المحكوم بالتزامه الأصولي تجاه إسرائيل، لم يكف عن توفير التبرير لكل ما تفعله، وزاد عليه بالدعم العسكري والمادي والدعائي أيضاً. وهو دعم يستند إلى الذريعة القائلة إنه "من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها"، ليقول ضمنياً إنه من واجبه الأصولي الدفاع عنها.
هذا "الحق" يتوافر لإسرائيل حتى عندما تحتل أرضاً خارج أراضيها، بينما لا يُعطى الحق نفسه لروسيا عندما ترسل قوات لكي تحتل أراضيَ في أوكرانيا.
فكرة أن الغرب منافق، لا تكفي لوصف هذه المفارقة. والغرب منافق قطعاً، ولكنه أعمى أيضاً. يختار عماه، ويتقصده عندما يتعلق الأمر بإسرائيل، وذلك لسبب بنيوي يتعلق بتأسيسه كقوة عظمى.
وكذلك الحال مع فكرة أن إسرائيل "طفل مدلل للغرب، ثم أفسده الدلال". هذا "الطفل"، ليس طفلاً. صار عمره 75 عاماً. وظل "مدللاً" ليس لأن الغرب يريد أن يمنحه ترخيصاً مطلقاً بالقتل من دون أن يتعرض للحساب أو المساءلة فحسب، ولكن أتاح له أن يكون عنيف اللغة، قبيحاً، وقليل الأدب أيضاً.
وزير الخارجية الإسرائيلي السابق إيلي كوهين، وصف 153 دولة صوتت لمصلحة قرار يدعو إلى وقف إطلاق النار في غزة في الجمعية العامة للأمم المتحدة، بـ"الدناءة". كما وصف القرار بأنه "مخز"، بينما واصلت إسرائيل جرائمها حتى هدمت نحو 60 بالمئة من مباني غزة، وقتلت أكثر من 34 ألف فلسطيني، ثلاثة أرباعهم من النساء والأطفال.
مارس كوهين خلال اجتماع مجلس الأمن الأول لبحث الحرب، كل ما كان بوسعه للترويج لادعاءات كاذبة، وقدم صوراً لجثث محترقة، كانت طائرات الأباتشي الإسرائيلية هي التي أحرقتها، من أجل أن يبرر تدمير مئات الآلاف من الوحدات السكنية على رؤوس أهلها، ومن أجل الترخيص لأكبر محرقة أطفال ونساء، على مرأى العالم بأسره.
وعلى الرغم من أن القوانين الدولية تجرّم سياسات العقاب الجماعي ضد المدنيين، فإن قطع الماء والكهرباء والدواء والوقود والطعام والاتصالات، لم يظهر في عين العمى الغربي، وكأنه عقاب جماعي يستدعي الوقف الفوري، أو المحاسبة.
لم ينطق الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بأكثر مما هو مشهود على أرض الواقع، عندما أعرب عن قلقه، أمام مجلس الأمن، من "الانتهاكات الواضحة للقانون الدولي الإنساني في غزة"، قائلاً إن "أي طرف في الصراع المسلح ليس فوق هذا القانون"، وإن "الشعب الفلسطيني يخضع لاحتلال خانق على مدى 56 عاماً"، وحذر من "العقاب الجماعي للشعب الفلسطيني"، إلا أنه هوجم كما لم يهاجم أمين عام للأمم المتحدة في السابق. وخاطبه مندوب إسرائيل لدى الأمم المتحدة جلعاد إردان بالقول: "لقد فقدتَ بوصلتك الأخلاقية، ولا يمكنك أن تظل أميناً عاماً ولو لدقيقة أخرى".
بدت المسألة وكأن أمرَ إقالة غوتيريش صدر من إسرائيل.
لقد سبق للعصابات الصهيونية أن قتلت الدبلوماسي السويدي الكونت فولك برنادوت في 17 أيلول 1948 في القدس، لأنه اقترح وضع حد للهجرة اليهودية ووضع القدس بأكملها تحت السيادة الفلسطينية، بموجب قرار التقسيم الرقم 181 والذي صدر في 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 1947. ولم يُحاسب مسؤول واحد عن هذه الجريمة. غلب الصمتُ على العالم الغربي إلى هذا اليوم.
وعندما يقول غوتيريش إن "غزة أصبحت مقبرة للأطفال"، فإنه يجب أن يتوقع شيئاً واحداً من هذا العالم، هو أن تصبح غزة مقبرة لمنصبه هو.
الغرب الذي يحكم العالم باقتصاده وقوته العسكرية وتكنولوجياته المتقدمة، يتصرف حيال إسرائيل كأسير، لما هو أبعد من مجرد "عقدة الذنب" تجاه المجازر التي تعرض لها اليهود خلال سنوات الحرب العالمية الثانية. هناك أسر عقائدي أشد.
وهناك أيضاً، أسر سياسي، حيث لم يعد بوسع أي طامح بالنجاح أن يناله من دون أن يبرهن على ولائه لإسرائيل، حتى ولو رآها ترتكب أعمالاً وحشية. لأن وكلاءها والمرتبطين بها لن يترددوا في سحقه.
سوى أن هناك ارتباطاً مصيرياً أكبر وأهم.
نشأة إسرائيل مفصل تاريخي لصعود الغرب وارتقائه كقوة عظمى حاكمة في العالم.
وعد بلفور، في هذا السياق، كان وعداً تأسيسياً ليس لإسرائيل وحدها، بل لنهضة الإمبراطوريات الاستعمارية الغربية الجديدة.
انظر في تفاصيل الدور الذي لعبته الرأسمالية اليهودية في نشأة النظام الدولي، في أعقاب الحربين العالميتين الأولى والثانية، ولسوف ترى بوضوح أين يكمن عصب الصلة بين الغرب وإسرائيل.
الغرب، بهذا المعنى، يدافع عن نفسه عندما يدافع عن إسرائيل.
أما الجرائم، فالغرب فعل في تاريخه الكثير من أمثالها. الكثير جداً.
وأما النفاق، فهو جزء من فلسفة السياسة في الغرب. التعريف الغربي المعتمد يقول إن السياسة شيء، والأخلاق شيء آخر.
سوف تعرف، انطلاقاً من هذا الارتباط، لماذا ظل الغرب عاجزاً عن فرض إرادته على إسرائيل. سوف ترى لماذا تمكنت إسرائيل من التنصل من كل قرار من قرارات الأمم المتحدة ومجلس أمنها. كما سوف ترى لماذا فشلت كل الإدارات الأميركية في أن تملي على إسرائيل اتفاقات سلام لم ترغب في تنفيذها. ولسوف ترى كيف يصبح السياسيون الغربيون جنوداً في معركة الدفاع عن "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، حتى وهم يعلمون أنها قوة احتلال. حتى وهم يرون ما تفعله. وحتى وهم كتبوا بأيديهم، في غفلة من التاريخ، نصاً في ميثاق الأمم المتحدة يجيز مقاومة الاحتلال.
الغرب يحلو له أن يُفصّل القوانين على مقاس مصالحه. إلا أنه يضع إسرائيل فوق القانون، بل فوق مصالحه نفسها، لأنه يدرك أن الصهيونية الرأسمالية هي التي أسست لعظمته ونفوذه.
تستطيع وزيرة خارجية مثل الألمانية أنالينا بيربوك أن تُشفق على كل أطفال العالم، باعتبار أنها أم لبنتين، إلا أنها تدافع عن "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها" حتى عندما تقتل آلاف الأطفال والأمهات في غزة. وعندما شقت عليها المجاعة في غزة، أنكرها نتنياهو وذكّرها بما يجب أن تتذكره، قائلاً: "إن إسرائيل ليست مثل النازيين الذين يفبركون الواقع".
ارتباط السببين، الأصولي والاستراتيجي، في الدفاع عن إسرائيل هو الذي يجيز لإسرائيل أن ترتكب جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، وأن تهين المجتمع الدولي، وتأمر بإقالة الأمين العام للأمم المتحدة، وتكون قوة احتلال لا تجوز مقاومتها، وتسرد روايات كاذبة، وتتصرف وكأنها تحكم العالم، لأنها، مثل الرئيس جو بايدن، تنتظر عودة المسيح.