كنت أقرأ تعليقات لبعض القراء على منشور في منصة التواصل الاجتماعي، المنشور عن لص سرق طائرة صغيرة في خمسينات القرن الماضي في أميركا، ما يهمني في القصة تعليقات القراء اليوم وليس حادثة السرقة القديمة، إذ وجدتُ من يُشيد بالأمر ويقول عن الفاعل (هذا فعل الرجال)!
لا أعرف معنى الرجولة هنا، ولكن على زماننان وهو ليس ببعيد، كنا نقصد بالرجولة ولا نزال الموقف الإنساني المنسجم مع مكارم الأخلاق، ومبدأ الإنصاف، ولا علاقة للفظ بالتمييز الجندري من ذكور وإناث، وذاك موضوع آخر، ولكن نبقى الآن في حالة تمجيد العامة لكل فعل وتصرف يخالف القانون العام، ويمجد أي خطوة نحو انهيار القيم وأمن المجتمع.
فالناس عندنا على علاقة متوترة مع كل سلطة، وذاك تاريخ طويل من الألم والعجب في العالم العربي والإسلامي.
وكل صاحب فعل يشعل التمرد هنا أو هناك، ترى في الأنحاء من يجعله رمزاً! وتسأل نفسك: لماذا يحب الناس فعل كسر القوانين؟
ودوماً ما نحكي عن مثال للدلالة إلى ذلك بقصة أنه إذا رأينا مثلاً الشرطة تلاحق شخصاً لا نعرف من هو في سوق أو أى مكان عام ترى المارة يتفرجون ولا يساعدون الشرطة، بل ستجد من يعين الهارب من الشرطي، لقناعة شعبية بأنه مظلوم، إن لم يكن ينظر إليه على أنه بطل! الكل يريد أن يشمت بالشرطي لا بالآخر.
وستجد من يرفع الصوت مشجعاً الفار من وجه الشرطي بفرح عجيب، فالمواطن ينتقم من قهر النظام العام له بمشهد يعين هارباً من وجه العدالة، قد يكون أخطر مما تتخيله الجموع المشجعة لهروبه في الميدان العام.
وربما بمتابعة سيل الشخصيات المجسدة للبطولة في الدراما، سنجد البطل الشعبي غالباً تحت مصنف "شخص خارج القانون"، بل وإصرار على تجسيد موظف القانون دوماً شخصية غير محبوبة!
وفي ذاكرة الناس حكايات عجيبة عن هذا الأمر، في كل العصور، حتى ورد بعضها في باب الأحاديث الموضوعة مما لا أحبذ تداوله. ورأيت تركها فهي موضوعة أصلاً.
ويقال عن أبي سفيان الثوري، وهو أحد أعلام الزهد عند المسلمين، أنه قال: "إذا رأيتم شرطياً نائماً عن صلاة فلا توقظوه لها، تحسبون أنكم تكسبون أجراً وأنتم تكسبون إثماً، فإنه يقوم يؤذي الناس!".
واختُِزلت علاقة المجتمع بالسلطة في هذه العلاقة المتوترة مع الشرطة، وهو خطأ يُدفع ثمنه من استقرار البلد ونموّه.
وفي الثقافة الشعبية الراسخة في بلد مثل بلدي اليمن على الأقل، نجد الأم تُخيف الطفل الذي لا يسمع الكلام بأنها ستأتي له بالعسكري أو الغول!
وخلقت ذلك التصور ورسخته في اليمن مرحلة حكم الإمامة البائد وقهر عسكرها، إذ كان حضور عسكر الإمام في القرى نوعاً من الاحتلال، لا مجرد حضور لمؤسسات حكم، بل احتلال للقرى وممارسات قائمة على مبدأ التمييز والقهر، وتلك قصةٌ مدمرة لعلاقة المجتمع بأهم المؤسسات.
رغم أن أي تقدم منشود لا يقوم بغير تعزيز مفهوم الأمن الإنساني، وهذا مصطلح يستحق التفصيل. ويختصر التعريف بأنه "أمن الإنسان من الخوف (القهر، العنف، التهميش) ومن الحاجة (الحرمان وعدم التمكين الاجتماعي) وذاك يعني خلق ديناميكية تدمج الإنسان في الأولويات التنموية والسياسية.
فمن دون شعور بالأمن من الانفلات والفوضى وتحقيق الأمن الاقتصادي والحريات العامة، يبقى الواقع مختلاً.
وفي الآية الكريمة
("فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ").
وتلك مقاربة مهمة لإعادة الاستقرار على المستوى الوطني، بل وعلى المستوى الإقليمي والدولي، حيث لا يمكن أن يغدو الواقع مستقراً والمؤسسات تَضرب بمبادئ الحقوق والحريات عرض الحائط، كما تغدو عمليات إعادة وحشية الاستعمار والاستعباد للشعوب منهجاً متجدداً لسياسة الدول الكبرى.
ولن يبقى أمام العالم المقهور غير أن يشجع الناس وكل من استطاع التمرد على القوانين بأن يتمرد، سواءً على مستوى لصوص صغار يفرون من وجه الشرطة، أم على مستوى قوات مارقة تضرب بالقانون الدولي عرض البحر، البحر الذي صار الآن ويا للعجب مرتعاً لعودة القرصنة والإرهاب، إرهاب دول كبرى وميليشيات صغرى، لا فرق، حيث الكل يتفنن بخلق الفوضى وتعزيز الخوف وانهيار القيم.