النهار

الفجوة الغذائية العربية... من لا يملك قُوْتَه لا يملك قراره!
محمد حسين أبو الحسن
المصدر: النهار العربي
العرب يضيعون، بقصد أو بدون قصد، فرصاً كثيرة لسد الفجوة الغذائية.
الفجوة الغذائية العربية... من لا يملك قُوْتَه لا يملك قراره!
غياب التخطيط يفاقم الفجوة الغذائية.
A+   A-

في أثناء القمة العربية بالجزائر عام 2005 أعلن العرب "استراتيجية التنمية الزراعية حتى عام 2030"، وأجازتها قمة الرياض عام 2007، وهي تحدد الآليات الكفيلة بالوصول للاكتفاء الذاتي من المحاصيل الأساسية. بعد 19 عاماً صار الأمن الغذائي العربي أكثر انكشافاً وهزالاً، يتعرّض للطمات قاسية؛ بسبب النزاعات الإقليمية والدولية، والتغيرات المناخية، أما الطعنة الأشد قسوة فهي السياسات الخاطئة وغياب التخطيط وفقدان الإرادة.

النقود... والطعام
في أحد المؤتمرات التي عقدتها منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو) عام 2010، أطلق بان كي مون سكرتير عام الأمم المتحدة آنذاك تحذيراً للعالم بأنه من غير المقبول أن يموت طفل كل خمس ثوان، أي 17 ألف طفل في اليوم، ما يتجاوز ستة ملايين طفل سنوياً. ثم وجّه بان كي مون تحذيراً للحضور من العرب: "قد تملكون النقود... لكنكم قد لا تجدون الغذاء الكافي".

رسالة مفزعة ألقت حجراً ثقيلاً في بركة الأمن الغذائي العربي الساكنة، أوضحت مدى "العجز الغذائي" عربياً، مع تزايد الفجوة الغذائية بين الإنتاج الوطني والاستهلاك الذي يتم تغطيته بالاستيراد بمليارات الدولارات. المخيف أنه حتى مع توافر الأموال لذلك قد لا تجد الشعوب العربية ما يسد رمقها، إما بسبب انقطاع سلاسل الإمداد أو لارتفاع الأسعار أو للأزمات الجيوسياسية؛ ما أوجد معادلة اقتصادية جديدة: تنامي الطلب وقلة المعروض... الغريب في الأمر أن العرب يضيعون، بقصد أو بدون قصد، فرصاً كثيرة لسد الفجوة الغذائية.

على الرغم من خطورة "العجز الغذائي" الذي تواجهه دول عربية، فإنه ليس جديداً بالتأكيد. اجتاحت هذه الأقطار على مرّ العصور مجاعات وقحط شديد أهلكت الحرث والنسل. تحتفظ الذاكرة العربية بأوصاف مريعة من هول تلك الشدائد؛ يكفي أن نشير إلى عام "الرمادة" في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، مثلاً. وتفيض كتابات المؤرخين بأحداث مماثلة، انظر لما سجله المؤرخ تقي الدين المقريزي تلميذ العلامة ابن خلدون، في كتابه "إغاثة الأمة بكشف الغمة"، والذي تناول وقائع "الشدة المستنصرية" عندما تراجع منسوب النيل في مصر؛ وحدثت مجاعات اضطرت الناس إلى أكل القطط والكلاب، ووصل الأمر إلى "الجثث"... ما يعد مثالاً متقدماً بحق لكتابات التحليل الاقتصادي وعلم الاقتصاد السياسي، استعرض فيها المقريزي دور العوامل الطبيعية في المجاعات، إلا أنه ببصيرته الثاقبة ألقى باللوم الشديد على الإهمال والتقصير، من جانب "السلطة الحاكمة"، في الاستعداد للمجاعات وتحييد نتائجها الكارثية، وصبّ جام غضبه بهذا الشأن على أولي الأمر من الحكام.

شهداء الخبز
وفي العصر الحديث تتابعت على الدول العربية أزمات غذائية تركزت في ضعف إنتاج الحبوب، خاصة القمح، في ظل الحروب والتغيرات المناخية والجفاف والتصحر، وربما كان آخرها الأزمة الغذائية المتواصلة منذ عام 2007، والتي فاقمها اتجاه الدول الكبرى المنتجة للحبوب، كالولايات المتحدة والبرازيل، لاستخدامها كوقود حيوي. أزمة ألقت بظلالها على الدول العربية؛ شهد بعضها طوابير الخبز التي سقط فيها "شهداء الخبز"، وتصاعدت حدة المشكلة إلى تحد اقتصادي وسياسي وغضب شعبي ضد بعض الحكومات... وقبل أن يفيق العرب والعالم من تلك الأزمة أتت الأزمات الاقتصادية العالمية، ثم كورونا ثم الحرب الروسية - الأوكرانية؛ لتدمر ثمار عقد من التنمية الزراعية وتعوق جهود الحد من عدد الجوعى بالعالم، بعدما تجاوزوا المليار نسمة، يتركز معظمهم في إفريقيا وآسيا.

تقدر وكالات الأمم المتحدة أن في المنطقة العربية أكثر من 55 مليون نسمة يعانون نقص التغذية من بين سكانها البالغين 460 مليون نسمة. وفي عام 2020، كانت المنطقة تضمّ نحو 20% ممن يعانون انعدام الأمن الغذائي الحاد في العالم... نسبة مرتفعة بالنظر إلى أن المنطقة تشكل 6% من سكان العالم، ويزداد الأمر سوءاً أينما تدور رحى الصراعات، كما هو الحال في اليمن وسوريا والسودان والصومال والعراق؛ بينما تتسبب الضغوط الاقتصادية والتضخم في تقليل الأمن الغذائي، مثلما يحدث في لبنان ومصر وبلدان المغرب العربي، مع تفاقم معدلات الفقر.

تحديات هيكلية
يزداد الوضع سوءاً في ظل تحديات هيكلية تضع عراقيل أمام جهود الدول العربية لتوفير الغذاء لسكانها الذين يعاني نصفهم شح "الموارد المائية"، في ظل توقعات بارتفاع عدد السكان إلى 700 مليون نسمة عام 2050. ولا تواكب معدلات الإنتاجية الزراعية الزيادة السكانية نفسها. هذا ينقلنا إلى التحدي الثالث أي "النظام الغذائي وطبيعته"؛ تعتمد بلدان المنطقة على الواردات الغذائية، تستورد نصف احتياجاتها الغذائية من الخارج، ترتفع النسبة إلى 90% في مجلس التعاون الخليجي، لكن دول الخليج تتمتع بفوائض مالية تضمن توافر السلع إلى حد كبير.

إن انعدام الأمن الغذائي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بؤرة خطر شديد الوطأة. في دراسة عن الأمن الغذائي يتوقف "الصندوق الدولي للتنمية الزراعية" أمام هذه الظاهرة، مؤكداً أن مشكلة الزراعة في العالم العربي ترتبط بخلل "استراتيجيات التنمية الاقتصادية" التي سادت المنطقة منذ سبعينيات القرن الماضي، وتتلخص في إعطاء الزراعة "دور المساعد لعملية التنمية"، ويتركز في تكوين رأس المال وتحويل فائضه للاستثمار بالقطاعات الأخرى، ما أدى لتدهور الزراعة.

توضح الدراسة أن تلك الاستراتيجيات بنيت وفق منظور غربي، في المقابل تبنت دول نامية ذات عدد سكان هائل وتعاني عجزاً غذائياً - مثل الصين والهند - توجهاً مغايراً، يعطي الأولوية للقطاع الزراعي، ما مكّن تلك الدول من تحقيق الاكتفاء الذاتي من الحبوب، بل والتصدير أحياناً، بينما بقيت معظم الدول العربية تدور في حلقة الاستيراد المفرغة.

وللإنصاف، ورثت أوضاع الأمن الغذائي الراهنة في الدول العربية، إشكاليات معقّدة نابعة من الظواهر السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية المتراكمة عبر عقود، قيّدت فاعلية برامج الأمن الغذائي وإبطاء العجز في الغذاء، على صعيد الفرد أوالمجتمع، وخصوصاً أن أسعار الحاصلات الزراعية أخذت تعاود الارتفاع ثانية، مطلع الشهر الحالي، بعد ثلاث سنوات من الاستقرار النسبي، وبالطبع لن يسلم العالم العربي من هذه التأثيرات السلبية.

إن ردم الفجوة الغذائية من جانب الدول العربية يتطلب حزمة سياسات واعية عاجلة، واعتماد برامج وقائية على المستوى القُطري والعربي.

وذاك حديث آخر...

اقرأ في النهار Premium