وليد محمود عبدالناصر
أثارت المواجهات العسكرية الإسرائيلية- الإيرانية التي تكرّرت أكثر من مرّة خلال شهر نيسان (أبريل) 2024 العديد من المخاوف والتكهنات والتساؤلات، ليس فقط لدى الأطراف الإقليمية والدولية ذات الارتباطات والعلاقات مع الطرفين أو أحدهما، بل أيضاً لدى المراقبين والمحللين المعنيين بشؤون الشرق الأوسط بصفة عامة، وبإسرائيل وإيران على وجه الخصوص. وتضمنت تلك التساؤلات والمخاوف، ضمن أمور أخرى، ما يتعلق بتداعيات تلك المواجهات وانعكاساتها ونتائجها على الداخل، سواءً الإيراني أم الإسرائيلي.
وسوف نتطرّق هنا إلى طرح بعض التصورات الخاصة ببعض التداعيات المحتملة أو الممكنة للمواجهات الإسرائيلية- الإيرانية على الداخل الإيراني، وذلك في ظل معطيات ذلك الواقع ذات الصلة بحالة التفاعلات بين إسرائيل وإيران والخلفيات التاريخية الإيرانية المعنية بحالة التفاعلات تلك، وبشكل أكثر تحديداً سنعرض تأثيرات تلك المواجهات على شرعية النظام السياسي الإيراني الحالي، وموازنة ذلك مع أولويات أخرى لدى القيادة السياسية الإيرانية.
وبدايةً، يتعيّن النظر إلى موضوع المواجهات العسكرية الإسرائيلية- الإيرانية الأخيرة في سياق أوسع وأشمل. إذ يجب أن نعود إلى وقت انتصار الثورة الإيرانية في شباط (فبراير ) 1979، ونتذكر أنّ دعم إيران الثورة، تحت قيادة آية الله الخميني، للثورة الفلسطينية آنذاك، وبقيادة الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات (أبو عمار)، وإعلان القطيعة آنذاك بين إيران وإسرائيل وقطع العلاقات الدبلوماسية معها، مقارنةً بالعلاقات الوطيدة التي ربطت بين النظام الشاهنشاهي البهلوي الإيراني السابق على الثورة وبين إسرائيل، لم يكن مجرد مدخل آنذاك، وقبل اندلاع الحرب العراقية- الإيرانية في أيلول (سبتمبر) 1980، لإحداث طفرة وانفراجة في العلاقات الإيرانية مع البلدان العربية، بل شكّل جزءًا مهماً ومكوناً عضوياً من مكونات شرعية الثورة الإيرانية في عيون القاعدة الشعبية والجماهيرية لتلك الثورة آنذاك، وهو مكون استمر، وإن تفاوتت الدرجة، حتى لحظتنا الراهنة، وتجدّد في أكثر من مرحلة من مراحل تطور تلك الثورة ونظام "الجمهورية الإسلامية" و"ولاية الفقيه" الذي أنتجته.
وبمرور العقود والسنوات منذ عام 1979، سعت إيران لاتخاذ موقفها الداعم للقضية الفلسطينية والمطالب العادلة للشعب الفلسطيني مدخلاً لتعزيز دورها وتأثيرها ونفوذها في المنطقة العربية بشكل عام، ولإدخال إيران كلاعب رئيسي ومؤثر، وإن كان غير مباشر، في الصراع العربي- الإسرائيلي، سواءً من خلال بناء شراكة استراتيجية طويلة المدى، وتعززت بمرور الوقت، بين إيران وسوريا، أم من خلال تعزيز الروابط مع العديد من الفصائل الفلسطينية، بخاصة تلك ذات التوجّه الأصولي الإسلامي، أم من خلال بناء شبكة من التحالفات مع التنظيمات الشيعية اللبنانية، بداية بحركة "المحرومين" التي أسسها وقادها الإمام الراحل موسى الصدر، التي أصبحت حركة "أمل" لاحقاً بزعامة السيد نبيه بري، ووصولاً إلى بناء تحالف استراتيجي مع "حزب الله" اللبناني منذ سنوات كثيرة. وكان من شأن هذا التوسع في الدور الإيراني على الساحة العربية بدوره أن عزز من الوزن الداخلي لعدد من اللاعبين الإيرانيين، بخاصة أولئك الذين تمّ إنشاؤهم على المستوى المؤسسي في الداخل الإيراني بواسطة نظام "الجمهورية الإسلامية" مثل الحرس الثوري الإيراني على سبيل المثال لا الحصر.
وعلى مدار الأربعة عقود ونصف الماضية، كانت لغة الخطاب السياسي الإيراني، بما في ذلك على مستوى القيادات العليا مثل المرشد ورئيس الجمهورية، وكذلك لغة الخطاب الإعلامي، تعكس مواقف متشدّدة تجاه إسرائيل، وارتبط ذلك بإدخال رمزيات جديدة على الصراع مع إسرائيل مثل الاحتفال بـ "يوم القدس" الذي أطلقه الراحل آية الله الخميني، وصار مثار احتفالات سنوية ضخمة من قبل إيران وحلفائها في الوطن العربي. وقد حدث ذلك رغم وجود إشارات من وقت إلى آخر إلى اتصالات سرّية خفية بين إيران وإسرائيل، كان من أهمها ما أثير من جانب العراق إبان الحرب العراقية- الإيرانية، وكذلك ما جري على تسميته بـفضيحة "إيران غيت"، وايضاً تقرير لجنة "تاور" الأميركية، ولكن في كل هذه الحالات حرصت القيادات الإيرانية المتعاقبة على نفي وإنكار هذه "الاتهامات"، وكان جزء مهمّ من هذا الإنكار يرجع إلى التخوف من انعكاسات تلك الاتهامات على الشرعية الداخلية للقيادات السياسية الإيرانية امام قطاعات مهمّة من القاعدة الجماهيرية للثورة وكوادرها.
كانت الاحتفالات الضخمة في "يوم القدس" وغيرها من المناسبات التي أنشأتها الثورة الإيرانية وارتبطت بالقضية الفلسطينية، والتي شهدت تنظيم تظاهرات شعبية مليونية، توفّر فرصاً أيضاً لإجراء مناورات عسكرية ضخمة، لإظهار القدرات العسكرية المتقدمة للجيش وللحرس الثوري الإيراني، وتوجّه رسائل، ولو غير مباشرة، إلى خصوم النظام السياسي الإيراني، سواءً الفعليين أم المحتملين، وسواءً في الخارج أم في الداخل، بشأن مدى تقدّم القدرات العسكرية الإيرانية بمرور الوقت. وكان ذلك بدوره يمثل مناسبات لإبراز المكون الخاص بالصورة الذهنية للمواجهة مع إسرائيل والتصدّي لها، كجزء من شرعية النظام السياسي الإيراني.
وبالتالي، وبناءً على ما تقدّم ذكره، فإنّ المواجهات العسكرية المباشرة الأخيرة بين إيران وإسرائيل، ولو أنّها محدودة ورمزية في نهاية المطاف، قد ينظر إليها البعض على أنّها تعزز شرعية النظام الإيراني وقيادته السياسية أمام قطاعات من الشعب الإيراني، بخاصة تلك التي تمثل جزءًا من القاعدة الجماهيرية والشعبية لذلك النظام، إلّا أنّ علينا ألّا نغفل أنّ القيادة الإيرانية لن تدع الزمام يفلت من يدها، ولن تنصاع إلى مزيد من التصعيد مع إسرائيل على صعيد المواجهة العسكرية المباشرة، تحسباً من أن يخرج التصعيد عن نطاق السيطرة، وتتحول المواجهات المباشرة المحدودة والرمزية إلى حرب مفتوحة وشاملة، تدرك القيادة الإيرانية جيداً أنّها قد تأتي على حساب أولويات أخرى لديها، سواءً في الداخل أم في الخارج، كما قد تستنزف قدراتها، سواءً عسكرياً أم اقتصادياً.
وقد لا يكون من المستبعد أن نرى إيران تستأنف في المستقبل القريب، وبعد أن تقدّر حسابات المكسب والخسارة لمواجهاتها العسكرية المباشرة مع إسرائيل خلال الشهر الجاري، استراتيجيتها القائمة على الجمع بين "الحرب بالوكالة"، سواءً تجاه إسرائيل، أو حتى تجاه الولايات المتحدة الأميركية، والتحرك الدبلوماسي الدولي النشط لكسب الدعم على الصعيدين الإقليمي والعالمي، الذي ربما تحتاجه إيران في أي مواجهات لها في المستقبل مع إسرائيل أو مع الولايات المتحدة الاميركية، سواءً كانت مواجهات مباشرة أم غير مباشرة.