علي الصراف
يكفي أحياناً، لكي تدحض الخرافة، أن توجّه لها سؤالاً من صلبها بالذات: إذا كان اليهود هم "الساميون"، أي أنّهم من أبناء سام بن نوح، كما ورد اسمه في الإصحاح العاشر من سفر التّكوين، فأين هم أبناء أخويه الآخريْن: حام ويافث؟ ماذا حلّ بهم؟ وإذا انتهوا الى شعوب شتى، فماذا كان حال الساميين أنفسهم؟.
الباحثون الذين يقولون إنّ نقاء الأجناس مجرد خرافة، ما كان بوسعهم أن يغفلوا الدلائل التي تشير إلى أنّ السامية "لغات" وليست عرقاً أو جنساً من الأجناس، حتى ولو شاءت الخرافة أن تتزين بالكثير من ملح الأوهام. ذلك لأنّ اقتصار اللقب "السامي" على "العبريين"، من دون السومريين والبابليين والكلدانيين والآشوريين والكنعانيين والعرب وغيرهم، سوف يكون سخافة لا تُطاق.
ولكن قلّ، لا بأس. فنحن إذ نتعامل مع عالم سياسي غربي سطحي المعارف، أو يتعمدها بالذات، فعلينا أن نتحمّل الكثير من التفاهات. "معاداة السامية" واحدة منها. أي بمعنى أنك إذ تُتهم بهذه التهمة، فذلك يعني أنك تعادي كل تلك الأقوام واللغات دفعة واحدة. ورغم أنّ هذا "كثير" بالفعل، فذلك هو واقع الحال الآن.
أحدهم (المؤرخ الألماني أوغست لودفيغ شلوتسر)، وضع المصطلح في العام 1781، ليقصد القول إنّه "من البحر المتوسط إلى الفرات، ومن أرض الرافدين حتى بلاد العرب جنوباً، سادت كما هو معروف لغة واحدة، ولهذا كان السومريون والبابليون والعبريون والعرب شعباً واحداً، وكان الفينيقيون (الحاميون) أيضاً يتكلمون هذه اللغة التي أود أن أسمّيها اللغة السامية". شكراً. على الأقل لم يكن "العبريون" وحدهم هناك في تلك الغرفة من التاريخ. ولكن كيف انتهينا إلى أنّ "معاداة السامية" تعني اليهود فقط؟
لقد حصل ذلك باستدعاء الخرافة لكي تقدّم لنفسها تفسيراً جديداً.
يهود أوروبا الذين واجهوا العزلة والتهميش والاحتقار، كان من الطبيعي أن يقعوا في غرام لقب رفيع. نسبوا أنفسهم له، وشيئاً فشيئاً احتكروه، وصنعوا منه "ملكية فكرية" لا ينافسهم عليها شركاء اللقب الآخرون.
العرب، لم تشغلهم المشاغل للدفاع عن ذلك اللقب. كانوا في سؤدد وحضارة ورخاء لقرون عدة. والعربية التي امتلكت ثراءً تجاوز كل اللغات، لم تشغلها فكرة العودة الى سام. حتى الانتساب الى "قوم نوح" لم يكن شرفاً بالنسبة لهم، إذ وصفهم القرآن الكريم بالقول "إنّهم كانوا هم أظلم وأطغى" (النجم 52).
ولكن بقي لنا ما بقي. أي استدعاء الخرافة لكي يجري توظيفها على نحو ما. ولأجل صياغة الوظيفة، قام "المركز الأوروبي لمراقبة العنصرية ورهاب الأجانب" في العام 2005، بوضع تفسير لـ"معاداة السامية"، يقول إنّها "تصور معين لليهود، يتمّ التعبير عنه بالكراهية تجاه اليهود، ومظاهر مناهضة السامية اللفظية أو المادية يتمّ توجيهها نحو الأفراد اليهود أو غير اليهود و/أو ممتلكاتهم، ومؤسسات المجتمع اليهودي ومرافقه الدينية". وذلك قبل أن تتولّى الخارجية الأميركية توسيع التعريف، أو بالأحرى تضييقه، لكي تشمل "مناهضة السامية" "بعض المظاهر التي يمكن أن تستهدف دولة إسرائيل باعتبارها كياناً جامعاً لليهود".
الافتراض الأوروبي للتعريف، ظل يأخذ في الاعتبار الامتناع عن "إنكار حق الشعب اليهودي في تقرير مصيره، مثلًا بالادعاء أنّ وجود دولة إسرائيل مسعى عنصري اعتمد معايير مزدوجة من خلال مطالبة إسرائيل بالقيام بسلوك غير متوقع أو غير مطلوب من أية أمّة ديموقراطية أخرى".
هنا بالذات "وقع الفأس بالرأس". لم يطلب أحد من الذين تظاهروا ضدّ جرائم الإبادة الجماعية التي ارتُكبت في غزة ما لم يطلبه من أي أمّة ديموقراطية أخرى. كان من المتوقع لتلك "الأمّة الديموقراطية" في إسرائيل، أن تحترم القانون الدولي، فلم تفعل، وأن تمتنع عن سياسات العقاب الجماعي، فلم تفعل، وأن تلتزم بمعاهدة منع الإبادة الجماعية التي وقّعت عليها هي نفسها في العام 1949، فلم تفعل، وأن تميّز في القتال بين مدنيين ومسلحين، فلم تفعل، وألّا تقطع الماء والكهرباء والدواء والغذاء والاتصالات عن مليوني إنسان، فلم تفعل، وألّا تنظر إليهم، بحسب التصريحات الرسمية من أعلى المستويات على أنّهم "حيوانات"، فلم تفعل. وألّا تهدم مئات الآلاف من المنازل فوق رؤوس ساكنيها، فلم تفعل. وألّا تستدعي إصحاحات أشعيا، لتنفّذها بصواريخ الحداثة الغربية، فلم تفعل. حتى أصبحت المشاهد المرئية أمام العالم شاهداً على مجزرة قتل وخراب لم يسبق لها مثيل في التاريخ. لم يفعل مثلها لا زعيم منتخب ديموقراطياً مثل أدولف هتلر (تخجل الثقافة الغربية أن تذكر ذلك)، كما لم يفعل مثلها غزاة جدد مثل ثلاثي "المحافظين الجدد" (جورج بوش، وديك تشيني ودونالد رامسفيلد) لا في أفغانستان ولا في العراق.
طلاب الجامعات الأميركية الذين يعتصمون في حرم جامعاتهم، طالبوا بوقف إطلاق النار، فلم يُستجب لهم. طالبوا بوقف تزويد إسرائيل بالأسلحة التي تستخدمها للدمار الشامل، فلم يُستجب لهم. طالبوا بإدانة الإبادة الجماعية، فلم يُستجب لهم أيضاً. وفي كل مرّة كان الاتهام ضدّهم حاضراً، بمعاداة السامية.
طلاب جامعات مثل كولومبيا وهارفرد وييل والعشرات غيرها، ليسوا ممن يمكن الاستخفاف بعقولهم عن "السامية". المشكلة هنا، تبدو وكأنّها مشكلة مسافة بين الفئات. فئة الايديولوجيين من الصهاينة البروتستانت، أسهل عليها أن تبتلع حجر الخرافات، وتتولّى تضخيمها لتجعل من "معاداة السامية" معاداةً لليهود، أو من انتقاد جرائم القتل اليومي التي تمارسها إسرائيل "دعماً للإرهاب"، إلّا أنّ قيم القانون والعدالة والمساواة بين البشر، ما كان لها أن توضع في صدام عنيف مع الواقع على مرأى فئة تقدّس الحقوق والحرّيات الفردية، منذ ربيع باريس في العام 1968.
هذه الفئة لم تنضب قدرتها على الثورة. وهي فئة تجاوزت آليات التهديد والتخويف والابتزاز التي مارسها اللوبي الصهيوني حيال أسلافها.
ولكن، ليس لأنّ جزءاً منها هم طلاب وأكاديميون يهود متحرّرون من عقد الخرافة، بل لأنّ جيلها الراهن يعرف كيف أصبحت المعايير المزدوجة فضيحة تعجز عن خدمة أغراضها.
الجامعات التي تنتفض الآن لأجل الدعوة الى وقف الإبادة الجماعية في غزة، هي ذاتها التي انتفضت ضدّ استمرار الحرب في فيتنام. ولكن الانتفاضة الراهنة مختلفة جذرياً. الأولى، أسقطت حرباً استعمارية في نطاق صراع على النفوذ بين قوتين عظميين نقلتا حربهما من جدار برلين لتخوضها في الأطراف البعيدة. وأما الثانية، فإنّها توشك الآن، أن تُسقط نظاماً للتمييز العنصري والفاشية الدينية والانتهاكات. وهو ما يعد بتغيير أعمق، يمتد إلى صلب وظائف المؤسسة السياسية ومفاهيمها.
إدانة الجريمة، بصفتها كجريمة، كانت هي العنوان العريض في الحرب الأولى. ولكن حقوق الإنسان التي ديست تحت جنازير الدبابات الإسرائيلية، صارت هي العنوان الآن. وهو ما يصنع مجرى لإعادة بناء الديموقراطية الغربية نفسها.
إسرائيل لن تنجو من هذا المنقلب. و"معاداة السامية" التي تحولت إلى غطاء لـ "معاداة الإنسانية" لن تكسب السباق.
كل الذين صاغوا الخرافة، يتقلّبون الآن في قبورهم. يتساءلون: كيف أصبحت "السامية" صنواً للجريمة؟ أم أنّ هناك شيئاً ما قد حدث كان هو الذي شوّه القراءات؟
أنظر الى شلوتسر، ولسوف تراه يبكي على ما فعلت إسرائيل بالمصطلح.
ثم، لا تقلق على غزة. اقلق على الخرافة التي تحولت الى فضيحة، واقلق على المؤسسات التي فشلت في أن تحترم قيمها.