ما زالت منصّة "نتفليكس" الرقمية، تواجه اتهامات بتزييف ذاكرة الحضارة العربية، وتغيير معالم جغرافيتها التاريخية، وتهديد قيمها الاجتماعية، وطمس ثقافتها، بما تقدّمه في متون أعمالها الدرامية والوثائقية، لا سيما المحمّلة بالمرويات اليهودية في تفسيرات وتنبؤات الصراع العربي- الإسرائيلي.
فمنذ بثها للفيلم الوثائقي "الوصية"، بداية نيسان (أبريل)، وحالة الانتقادات لم تتوقف في ظلّ تقديمها لقصة النبي موسى عليه السلام، في صورة بشرية مغلّفة بالغضب والضعف والانفعال، ما يطعن في مكانته الرسولية والروحية، فضلاً عن تجسيدها للذات الإلهية، في حالة من عدم احترام للقدسية الدينية لدى المجتمعات العربية ومعتقداتها.
تضمّن فيلم "الوصية... قصة النبي موسى"، ثلاثة أجزاء شملت عرضاً روائياً وثائقياً حمل كل منها عنواناً مختلفاً: "النبي"، و"العقاب"، و"الأرض الموعودة"، للمخرج والكاتب البريطاني بنيامين روس.
رغم الجدلية التاريخية لقصة نبي الله موسى عليه السلام، والاستعانة بعدد من المتخصصين ضمن مرويات العمل الدرامي، أمثال الدكتورة الأميركية، سيلين إبراهيم مؤلفة كتاب "النساء ونوع الجنس في القرآن"، والدكتور شادي ناصر أستاذ الحضارة الشرقية في جامعة هارفرد الأميركية، والأسقف أندي ليوتر، المؤرّخ والحاصل على زمالة الكنيسة المعمدانية، والحاخام موريس هاريس، وتوم كانغ، قس كنيسة نيوستوري، والمؤلف جوناثان كيرش، وعالمة الآثار المصرية مونيكا حنا، فإنّ القائمين على العمل الفني غلّبوا التوجّه اليهودي في سرديتهم، متجاهلين الرواية القرآنية أو من يمثلها من رجال المؤسسة الدينية الرسمية.
تبرز الأعمال الدرامية والوثائقية التي انتجتها منصة "نتفليكس" على مدار السنوات الماضية، ميولها للترويج لنظرية "قابلية الاستعمار الفكري والثقافي" التي تهدف إلى تغيير السياقات العقائدية، والتاريخية والجغرافية، والسياسية والاجتماعية في عمق المنطقة العربية، وفق منظومة دعائية إقناعية تقدّم الحقائق في إطار أغراض انتقائية، أو تحريفها اعتماداً على الاستمالات العاطفية.
التأطير لعملية تزييف الحقائق، متأصّلة في أفلام "كليوباترا"، التي ادّعت فيه انتماءها للأصول الإفريقية وفقاً لأيديولوجية حركة "الأفروسنتريزم"، "هانيبال"، القائد القرطاجي الذي قدّمته كأحد مواطني جنوب الصحراء، فضلاً عن الأعمال التي تصادمت مع أخلاقيات الشارع العربي، وروّجت للشذوذ والمثلية الجنسية، والتطبيع الصهيوني، مثل فيلم "أصحاب ولا أعز"، المأخوذ من الفيلم الإيطالي العالمي الناجح "بريفكت سترينجرز"، ومسلسل "مدرسة الروابي"، الذي أنتجته عام 2021، ومسلسل "جن" الأردني عام 2019، وفيلم ""The First Temptation of Christ أو "الإغواء الأول للمسيح"، والذي أنتجته عام 2019، وتناول حياة نبي الله عيسى عليه السلام في إطار من الكوميديا الساخرة، متّهماً إيّاه بالمثلية الجنسية، وأظهر والدته السيدة مريم العذراء كمدمنة للحشيش.
ومسلسلات مثل Elite، وThe Haunting of Hill House و Chilling Adventures of Sabrina، التي احتوت أحداثها على شخصيات مثلية الميول الجنسية، و Special الذي انتجته عام 2019، ويركّز بشكل أساسي على مذكرات الكاتب والممثل الأميركي ريان أوكونيل، الداعم لقضايا المثليين جنسياً .
رغم أنّ المنصة الرقمية تردّد أنّها لا تتبنّى أية أجندة سياسية، فإنّ واقع تجربتها العملية في إنتاج أعمال تنطوي على خيال درامي، يؤوِل الحقائق في قوالب ترفيهية، وفق الرواية الصهيونيّة، في تهديد للهوية المصرية والعربية، في ظل استقاء غالبية الأجيال الجديدة معلوماتها من الأعمال الدرامية، من دون رجوعهم للمصادر التاريخية الأصلية من الكتب والوثائق الرسمية.
غزارة الإنتاج الدرامي الإسرائيلي المعروض على منصّة "نتفليكس"، جعلها أحد أدوات "الهاسبارا" اليهودية في الترويج للشائعات والأكاذيب التاريخية، بهدف التأثير في الرأي العام الدولي، وفق استراتيجية "الدبلوماسية العامة"، التي يعتمدها الاحتلال في بناء صورته على المسرح العالمي، وتبرير أفعاله ومواقفه السياسية، في إطار المنظومة الدعائية التي تأسست عام 2003، تحت عنوان "مشروع إسرائيل" (The Israel Project)، وهو منظّمة للدعاية والفنون والعلاقات العامّة، تهدف إلى تحسين صورة الحكومة الصهيونية عبر مختلف المنصّات التلفزيونية والإعلامية، من خلال اختلاق الوقائع وقلب سياقها، وتزييف الأحداث، والتلاعب بالوعي، والترويج لفكرة أنّ إسرائيل ضحيّة، لتبرير همجيتها ووحشيّتها تحت عنوان "محاربة التطرّف والارهاب".
هذا ما دفع الكاتبة الأميركية "بيلين فيرناندز" إلى كتابة مقال مطول، نشرته على موقع "ميدل إيست آي"، وتحدثت فيه عن سيطرة الكيان الإسرائيلي على شركة "نتفليكس"، ودمجها وغيرها من منصات الترفيه إلى آلة الدعاية "الإسرائيلية"، لمحاولتها تغيير الصراعات التاريخية في منطقة الشرق الأوسط، من خلال تعظيم الدور الاستخباري لجهاز "الموساد"، وتقديم قياداته كأبطال، في مقابل تقديم الفلسطينيين كمجرمين وإرهابيين.
ومن أشهر الأعمال الدرامية والوثائقية التي قدّمتها المنصة الرقمية، وجسّدت عمليات جهاز المخابرات الإسرائيلية، مسلسل "عندما يحلّق الأبطال" الذي أُنتج في 2018، وفيلم "منتجع البحر الأحمر" الذي يروي تفاصيل ترحيل يهود إثيوبيا إلى إسرائيل عبر السودان، ومسلسل "الجاسوس"، عن عميل "الموساد" الشهير إيلي كوهين الذي أُعدم في دمشق عام 1965، ومسلسل "فوضى" 2016، الذي يُظهر عمليات وحدة مكافحة الإرهاب الإسرائيلية العاملة في الضفة الغربية المحتلة، ووثائقي "في داخل الموساد"، والذي تضمّن لقاءات مع رموز الجهاز ودورهم حماية الأمن القومي الإسرائيلي.
لا نوجّه اتهاماً صريحاً للمنصة الرقمية، بقدر محاولتنا وضع أيدينا على خروقاتها للقيم المجتمعية، وتزييفها الحقائق الثابتة، وترويجها للمحتوى اليهوديّ التاريخيّ، فضلاً عن سعيها لتأسيس هويات تتماشى مع السياق الغربي، وترسيخ تبعيتها الثقافية، في إطار الغزو الفكري الذي يعدّ أكثر خطورة وأعمق تأثيراً من الغزو العسكري، في إطار التخلّي عن عقيدة وأعراف وهوية وتقاليد الأمّة العربية.
*كاتب مصري، وباحث في شؤون الجماعات الأصولية