لا يمكن أي مسؤول عربي أن ينكر وجود خطر متزايد على مستقبل الأمن الغذائي، لكن الآراء تتباين في تشخيص الأسباب وطرق العلاج. صحيح أن العوامل الطبيعية كشحّ المياه والتصحر ومحدودية الأراضي الزراعية تلعب دوراً في تفاقم الأزمة، إلا أن هذا الرأي لا يقوى على الصمود أمام دراسات تؤكد أن بعض مناطق العالم العربي "منجم لا ينضب" لإنتاج الغذاء، بإمكانها سد احتياجات الشعوب العربية، إذا ما توافرت الإرادة والعمل والإمكانات المالية والتكنولوجية، فأين الحقيقة وكيف السبيل؟!
مثلث التنمية
السؤال الذي يفرض نفسه على صناع القرار في العالم العربي: ما الذي تستطيع الدول العربية عمله لضمان الأمن الغذائي؟
علينا الاعتراف بأن الواقع السياسي العربي يفيض بالصراعات في دول فاشلة، كما تضرب الأزمات الاقتصادية بقسوة مجتمعات أخرى؛ تراكم الأزمات الداخلية والخارجية يفرز كثيراً من الضحايا والجوعى أو من في طريقهم إلى المجاعة؛ فلم يحقق القطاع الزراعي العربي، طوال العقود الأربعة الماضية زيادة في الإنتاج توازي الطلب على الغذاء، ما جعل الأمن الغذائي ومن ثمّ "الأمن القومي العربي" في حالة انكشاف خطيرة.
برغم كثافة التحديات فإن الفرصة سانحة لبناء أنظمة أفضل لصيانة الأمن الغذائي العربي واستخدام الموارد بكفاءة واستدامة. أولى الخطوات إعادة النظر في خريطة الأمن الغذائي، وضرورة تحقيق التضافُر بين مثلث التنمية العربية (المال الذي تملكه دول الخليج، والأيدي العاملة التي تمتلكها مصر والجزائر، والأراضي الخصبة الصالحة للزراعة التي يملكها السودان والعراق)، وبتضافُر هذا الثلاثي تحت مظلة الإرادة السياسية العربية يُمكن للقوم أن يحققوا الاكتفاء الذاتي من الحاصلات الاستراتيجية، كالقمح والأرزّ والذرة والزيوت، وكذلك الألبان واللحوم، إلخ... يصب التكامل الزراعي العربي في مصلحة كل العرب، بل قد يتحولون من استيراد الأغذية إلى تصديرها؛ لأن الموارد من أرض ومياه وقوى بشرية ورأس مال وتكنولوجيا وإدارة ليست متوازنة داخل كل دولة عربية على حدة، في حين أنها متكاملة ومتوازنة في الدول العربية مجتمعة، شريطة أن يقوم "التكامل الزراعي"، من خلال تنفيذ خطط وفقاً للمزايا النسبية لكل بلد.
الأمن الغذائي
في كتابه "الأمن الغذائي للوطن العربي"، يعدد الدكتور محمد السيد عبد السلام المقومات التي تحوزها البلدان العربية، ويمكن أن تعينها على تحقيق التنمية الزراعية: مساحات كبيرة من الأراضي الصالحة للزراعة، تبلغ 38.5% من إجمالي المساحة الكلية للدول العربية، بينما بلغت الأراضي المزروعة عام 2020 نحو 72.8 مليون هكتار، بما نسبته 5.4% من مساحة تلك الدول، وتُعتبر إنتاجية الأراضي العربية متدنّية في مجملها قياسًا بالنِّسَب العالمية، ولا سيما مجموعة الحبوب عصب الأمن الغذائي العالمي، إذ تقدَّر إنتاجية الأراضي في الدول العربية بنحو 1.13 طن للهكتار، مقارنة بـ 3.6% طن على المستوى العالمي. ومن المفارقات المحزنة أن دولة عربية واحدة مثل السودان بإمكاناتها الهائلة، لو توافرت الظروف الملائمة، تستطيع إنتاج غذاء يكفي جميع الشعوب العربية.
تقارب أعداد السكان في الدول العربية 460 مليون نسمة، يشكّلون 5.6% من سكان العالم، كما أن امتداد الوطن العربي في أحزمة بيئية متعددة يمكنه من إنتاج محاصيل زراعية متنوعة؛ هذا يزيد فرص التكامل بين البلدان العربية، ناهيك عن توافر العمالة، بالإضافة إلى الفوائض المالية، ولا سيما النفطية، التي يمكن توجيهها للاستثمار الزراعي. هنا لا بد من الإشارة إلى نجاح دول الخليج في تحقيق الاكتفاء من معظم محاصيل الخضروات، كما تغلبت على قلة الأراضي الزراعية، باستئجار أراض في دول أخرى، في السودان وكندا وأستراليا.
مقوم آخر يسهم بقوة في سد الفجوة الغذائية هو امتلاك التقنيات وعلوم الهندسة الوراثية وزراعة الخلايا والأنسجة، ومراكز الأبحاث والتوسع في الاستثمار الزراعي والتنسيق بين الخطط التنموية العربية، كلها عوامل تساعد على تقليل العجز الغذائي، وربما التخلص منه نهائياً، مثلما فعلت الهند على سبيل المثال. إن الأقطار العربية في وضع يتيح لها استخدام التكنولوجيا في القطاع الزراعي، واستعادة دورها الريادي القديم في الابتكار الزراعي، من خلال الاستثمار في أحدث التكنولوجيات المراعية للظروف المناخية، مثل الزراعة المائية والاستخدام الآمن للمياه المعالجة.
وينبغي أن تتوازى تلك الخطوات مع وضع نماذج مالية جديدة للاستفادة من استثمارات القطاع الخاص في الزراعة ومساندة المزارعين على تحديث أنظمتهم ومعداتهم من أجل إنتاجية أكثر، والقدرة على الصمود أمام الجفاف والفيضانات والمخاطر الأخرى، بحيث يتحول قطاع الزراعة والتصنيع الزراعي إلى قاطرة للنمو الاقتصادي، يوفر وظائف للوافدين إلى سوق العمل، وزيادة جاذبية قطاع الأغذية.
بارقة أمل
مرحلياً يجب أن يترافق هذا مع رفع كفاءة إجراءات استيراد المواد الغذائية وتخزينها، لتقليل مخاطر تقلبات أسعار المواد الغذائية، والتحوط لمحاولات الدول الكبرى المنتجة للحبوب إغراق السوق العربية بالمنتجات الزراعية والغذائية المستوردة بأسعار منافسة؛ لا تستطيع الصناعات العربية المنافسة معها؛ ما يضعف الإنتاج الزراعي، خاصة مع تغير الأنماط الاستهلاكية في العالم العربي، في ظل الهجرة من الريف إلى المدينة.
إن المعطيات السالفة تظهر بارقة أمل حقيقية بصدد إمكانية تطوير قطاع الزراعة؛ ليقوم بدوره الأمثل في عملية التنمية، لدرجة أن يصبح الوطن العربي إحدى المناطق المصدرة للحاصلات الغذائية، عن طريق وضع استراتيجيات كفوءة والاستغلال الأمثل للموارد خاصة المائية وتعزيز التكامل العربي، على أساس أن يكون "الكل رابحاً".
إن كل الظروف المحيطة تضع "قرار" العرب واستقلالهم السياسي على المحكّ بل ووجودهم أيضاً. الغذاء ضرورة حياتية لوجود الإنسان، والأمن الغذائي قضية محورية لأي وطن، بعدما صار الغذاء سلاحاً سياسياً يستخدم ببراعة في تذويب مقاومة الشعوب الفقيرة، وإخضاعها لسياسة الدول التي تمسك بمفاتيح مخازن الغلال. أصبح الجوع بل "التجويع" هدفاً بحد ذاته للتلاعب بحياة الأفراد والأمم والمجتمعات. انظر إلى سياسة الإبادة الجماعية التي تتبعها إسرائيل ضد الفلسطينيين وأقوى أسلحتها الحصار و"التجويع".
إن كل محاولة جادة لتحقيق الأمن الغذائي، هي لبنة في سياج الأمن القومي العربي ضد تداعيات الأزمات الخارجية، في ظل البوادر المؤكدة لأزمة غذائية جديدة بالترافق مع الأزمة الاقتصادية العالمية أو كنتيجة لها، ما يعد جرس إنذار مدوياً لأصحاب القرار في العواصم العربية، علهم أن يدركوا أن من لا يملك غذاءه لا يملك قراره، وأن العالم لن يمد يد المساعدة لمن لا يساعد نفسه، ويعيش عالة على موائد الآخرين.