باسل سواري
مع إعلان رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني العام 2024 "عام الإنجازات" على كل المستويات، يتردّد كثير من المعلّقين في ملاحقة التطورات والتحقّق من التصريحات، لكي لا "يعكّروا" صفو "الإنجازات" أو يعرقلوا تقدّمها، ويكونوا بذلك جزءاً مما شكا منه السوداني ووصفه بـ "الصحافة السلبية". ولذا، انتظر هؤلاء الكثيرون، إيضاحات حكومية حول "إنجازات" زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وعلى رأسها "مفاجأة" ملف المياه.
ومنذ غادر أردوغان أرض بغداد، والأوساط العراقية لا تكفّ عن مطالبة المسؤولين العراقيين بكشف مزيد من المعلومات عن الاتفاق الذي وُصف بالتاريخي بشأن ملف المياه، لكن ربما يتعيّن على أولئك السائلين والمنتظرين، التوقف عن الانتظار.. "لم نحقق شيئاً" كما بات يعتقد معظم خبراء المياه.
عام 2018، أمر أردوغان بتأجيل ملء سد "أليسو"، وقال إنّه لن يحبس الماء عن العراقيين في شهر رمضان، لقد كان تصريحاً بملمس إنساني، لكن بلغة "أبوية"، فعبارة "حصّة العراق" لا ترد في قواميس السياسة التركية، وعوضاً عنها ثمة ما يشبه "الخرجية"، يُطلقها "الأب الرحيم" الذي قد يلتفت إلى أبنائه ذات شهر كريم، لكنه لن يعترف بحقٍ لهم.
حين قال الناطق الحكومي العراقي باسم العوادي إنّ ثمة "مفاجأة" سيُعلن عنها خلال زيارة أردوغان بغداد، لم يتمالك نفسه وسارع إلى تسريب تلك "المفاجأة" بعد ثوانٍ، وأكّد أنّ بغداد ستوقّع للمرّة الأولى اتفاقاً استراتيجياً في ما يخصّ المياه، غير أنّ الاتفاقية التي أعلنتها بغداد كانت غامضة وبمصطلحات فضفاضة، ولا تنصّ في أي من بنودها الثمانية على حق العراق في أي كمية محدّدة من المياه، بل تكرّس الرواية التركية عن إساءة العراق استخدام المياه، ولذلك فإنّ بنود الاتفاقية تتحدث بين السطور عن التعاقد مع الشركات التركية "لتحسين إدارة المياه".
وكثيراً ما تذرّعت أنقرة بأنّ المياه العذبة تصبّ هدراً في الخليج، لكن وزير الموارد المائية العراقي يدعو مراراً كل من يكرّر هذه الفكرة إلى زيارة آخر نقطة في البرّ العراقي جنوب البصرة، ليرى كيف أنّ مياه البحر المالحة تدخل إلى العمق ولا تسمح أصلاً للمياه العذبة بالتدفق نحو الخليج.
وسبق أن أجرى العراق اتفاقات مماثلة عام 2014 و2021، لكن القاسم المشترك بينها جميعاً، هو رفض أنقرة إبرام اتفاق بين دولتين، وإصرارها على إبقاء الاتفاقات بين حكومتين، قابلة بذلك للتغيير والتبديل والتراجع إذا ما نشب خلاف بين الطرفين في ملف الأمن أو التجارة أو غيرهما.
ويبدو أنّ السوداني لم يكن يعوّل بالأساس على إمكان إبرام اتفاق عادل للمياه، ولذلك صبّ تركيزه في كل تصريحاته على أهمية مشروع "طريق التنمية"، الذي من المقرّر أن يربط ميناء الفاو الكبير أقصى جنوب البلاد بتركيا ثم أوروبا، ووصفه بأنّه "نهر" أيضاً مثل دجلة والفرات، على أمل أن يؤدي تشابك المصالح بين البلدين إلى مزيد من "الرأفة" بحال العراق في ملف المياه.
ومن بين التصريحات التي لم يجر الالتفات لها جيداً في الإعلام، حديث لقيادي في حزب العمال الكردستاني، وصف فيه طريق التنمية بأنّه "محاولة من أردوغان لإجراء تغيير ديموغرافي في مناطق الكرد بحجة حماية المسار، وخطة تركية تريد المرور فوق جثث الكرد، وأنّه لن يحقق أهدافه ما لم يحصلوا على حقوقهم" وحين يعبّر حزب مسلح عن استيائه بهذا المستوى، فلا يمكن توقّع ردود فعله على شكل برقيات استنكار أو مذكرات إلى الأمم المتحدة، بخاصة أنّ الطريق بمساره المعلن، يتجنّب الدخول في عمق إقليم كردستان، ويتعمّد المرور بمناطق عراقية يسيطر عليها حزب العمال.
وتتفهم إدارة السوداني التحدّيات التي تواجه المشروع، ويتحدث ناصر الأسدي، مستشار رئيس الوزراء بلا تردّد عن خطة صريحة لتأمين الطريق من "الميليشيات والبككة" عبر "إسكاتهم بالفلوس".
ويمثل "طريق التنمية" حلماً وطنياً قديماً بتحويل أرض العراق إلى ممر استراتيجي بين القارات، لكنه حتى الآن لا يحظى بتفهّم قوى سياسية ومسلحة لأهميته، فهو ليس طريقاً حصرياً مثل قناة السويس، حتى تضطر حركة التجارة لسلوكه، بل هو اقتراح من العراق إلى التجارة العالمية، ولذا فإنّه لا بدّ أن يكون آمناً ورخيصاً ومتطوراً ومغرياً، ويكون فيه "الزبون مدللاً"، لا أن يضطر لتحمّل أعباء الأتاوات أو تكاليف "الفلوس" التي يجب دفعها إلى "الميليشيات وحزب العمال".
ويمكن ترجمة كل ما سبق بأنّ العراق يريد الماء ويعرض في المقابل "طريق التنمية"، وتركيا تطلب أولاً القضاء على "العمال"، وهؤلاء يلوّحون بكثير من القلق على "طريق التنمية"، والحكومة العراقية تعرض شراء هدوء "الميليشيات والعمال" بـ "الفلوس".. ونتائج هذه الصفقة المعقّدة هي التي ستحدّد ما إذا كان العراق قد أبرم "اتفاقاً تاريخياً" للمياه هذه المرّة أم كرّر جلسات تبادل الديباجات السابقة.