الرسائل الخاصة بأحداث فلسطين مؤخّراً رجعت بنا إلى أوراق ووثائق تكشف حقائق ووقائع تستحق أن تملأ وسائل التواصل الاجتماعي، لما فيها من تنوير بخلفيات خفيت عمّن اكتفى بما يتلقّى من دون عناء واعتناء بدقّة وصحة ما يرد إليه. ومن الأوراق ما يخص أحد أشهر أبناء العراق، ونعني به الراحل الكبير المؤرخ والدبلوماسي نجدة فتحي صفوة، الذي يشرح عروبية اسمه وتاريخه، خلال مقابلة مع الإعلامي السعودي الشهير محمد رضا نصر الله، أنّ اسمه مطابق لاسم الشاعر العربي القديم "أبو نجدة الخفاجي" صاحب بيت الشعر الشهير:
المستجير بعمرو عند كربته... كالمستجير من الرمضاء بالنارِ.
تزامنت مئوية ميلاد نجدة فتحي صفوة 1923 مع تجدد فعاليات قضية فلسطين التي تفتّح وعيه عليها مبكراً من خلال العالم الفلسطيني الشهير الأستاذ أكرم زعيتر مدرّس التاريخ في دار المعلمين العراقية، حين جاء بصحبة مدير المدرسة إلى فصل نجدة سنة 1935، يلقي في الطلاب خطبةً حولها. ثم تعرف ابن فتحي صفوة إلى ما يحاك لأرض فلسطين من خيوط دولية، يُراد بها إخراج أبنائها ليحلّ غيرهم محلهم.
هذا العراقي العريق، المولود سنة 1923 في اسطنبول حيث كان يعمل والده سفيراً هناك، نما وعيه وسط بيئة دراسية ثقافية عروبية تتجاوز الجنسيات والهويات، بفعل تأثير رائد القومية العربية ساطع الحصري. في مدرسته حفظ دروس أستاذه علي الطنطاوي عن ظهر قلب، ونقلها معه إلى طلبته هو حين عمل مدرّساً في كلية بغداد الأميركية سنتين قبل عمله الدبلوماسي في 1945، ولما برز نجدة بالإنشاء من أول شبابه، أُعجب به الطنطاوي وبعث بتلك القطعة الأدبية إلى مجلة الرسالة ورئيسها أحمد الزيات، فكان أول مقال يُنشر له وهو لا يزال في الثالث متوسط.
التحق بكلية الحقوق، وقد نشط قلمه يكتب تحت زاوية "كتابي الجديد" لصحيفة "البلاد" العراقية، وفيها تتلمذ صحافياً على يد شيخ صحافيي العراق روفائيل بطي، ثم لجريدة الأهالي للزعيم السياسي كامل الجادرجي. وبدأ إصدار كتب ودراسات في المجال الأدبي وهو لا يزال يدرس في الجامعة في مطلع العشرين من عمره. عقب تخرّجه في كلية الحقوق، اجتاز امتحان القبول للعمل في السلك الدبلوماسي بوزارة الخارجية، وأخذ يخوض غمار العالم المحسود على امتيازاته.
دخل السلك الدبلوماسي مسلّحاً بالأدب، مزوداً بالمهارات الصحافية، متمكناً من ناصية لغات عدة صارت كلها عتاده حين تفرّغ للكتابة والبحث التاريخي بعد استقالته من العمل الدبلوماسي سنة 1967 عقب آخر مهمّة تولاّها كسفير للجمهورية العراقية لدى جمهورية الصين الشعبية، بعدما ترأس الدائرة السياسية بديوان الخارجية وعمل وكيلاً مساعداً بالوزارة. هذا بالطبع عقب تدرّجه في العمل بسفارات العراق مملكةً ثم جمهورية لدى عواصم دول كبرى عالمية وعربية وإسلامية.
استقال من الخارجية ولسان حال منهجه الجديد:
من مبلغ القوم شطت دارهم ونأت... أني رجعت إلى كتبي وأوراقي.
بعمق باحث وحرفية مترجم وأناقة دبلوماسي وأمانة مؤرخ، وشغف عاشق التهم الوثائق. ضمن كتبه السبعة والخمسين، تجد في مستهل المقدمة اقتباساً عن المؤرخ الفرنسي آرنست رينان: "إنّ الوثائق أداة خرساء بيد من لا يعرف كيف يحييها وينفخ من روحه فيها". إذاً جاء نجدة نجدةً للوثائق نفخ الروح فيها، وأضاف إلى الفكر والتاريخ الإنساني بحراً زاخراً من المواد الخام، إذ قلب الوثائق البريطانية ينقّب عمّا يخص العراق وفلسطين والجزيرة العربية فكانت مجلدات "الجزيرة العربية في الوثائق البريطانية" أو "هذا اليوم من التاريخ" وغيرها من المذكرات التي استند فيها إلى الوثائق الأجنبية وصدرت عن دار الساقي ورياض الريس وغيرهما، كما بقلم رشيق من دون "حكايات دبلوماسية" أصدرتها دار النهار أولاً ثم الساقي، ولا تخلو حكاياته من طرافة وثقافة وإضافة مفيدة لكل من يهتم بالشؤون السياسية والجوانب الإنسانية.
إذ يترجم السفير المؤرخ ملزماً نفسه عدم الترجمة بتصرّف صوناً للنصوص الأصلية وأغراضها من مهانة التحريف، نازعاً عن المترجم تهمة الخيانة، فإنّه لا يقف عند عتبة الترجمة الأمينة فقط، بل بما امتلك من خبرة وقدرة تعبير وملكة تحليل وتمييز بين غث وسمين، يبين ويشرح أهمية الوثيقة - التقرير ويضعها في إطارها المناسب... ملمحاً لاستحقاق الأخذ بها والإفادة منها، أو مجرد العبور عليها لمعرفة مستوى تفكير واهتمام الآخرين بالشؤون العربية وصحة أو خطأ تقديرهم لرؤى العرب. فينبّه إلى الخاطئ منها، وينذر من خطورتها.
لعلّ كثيراً منا جاء في "مواتساته" ما يخص دولة يهودية أنشأها الاتحاد السوفياتي في زمن متقدّم على قيام دولة إسرائيل بالاحتلال لأرض فلسطين العربية من سنة 1948 ثم التوسع بعد 1967. لا يعجب أحد عندما يعلم أنّ الاتحاد السوفياتي- حيث عمل صاحبنا نجدة فتحي صفوة أوائل الستينات من القرن الماضي- هي أول من أنشأ دولة يهودية في نطاقه، وأنّ مندوب موسكو لدى الأمم المتحدة أندريه غروميكو كان أول من بارك قرار تقسيم فلسطين 1947 إيماناً بحق اليهود في إقامة دولتهم، بل حضّ عليه، كما ظهر لنا ذلك "من نافذة السفارة" الكتاب المهمّ لنجدة صفوة الذي يحتوي تقارير دبلوماسيي بريطانيا عن الدول العربية وغيرها. كذلك كانت روسيا أول دولة تُقدم على الاعتراف القانوني بدولة إسرائيل، بشكل حيّر البريطانيين أنفسهم، سابقةً بذلك الولايات المتحدة الأميركية التي اعترفت بالأمر الواقع قبل انتصاف القرن العشرين، بحسب كتاب "موسكو تل أبيب" للباحث المصري سامي عمارة.
أما في القرن الحادي والعشرين فإنّ موسكو عاصمة روسيا الاتحادية كانت أول من تفاعل بنقل السفارات إلى القدس سنة 2017.
الدولة اليهودية التي أنشأتها موسكو وهي بيروبيجان، خصّص لها المؤرخ الدبلوماسي نجدة فتحي صفوة كتاباً تناول أسباب نشوء هذه الدولة وفشلها في استقطاب اليهود من بقية العالم نتيجة الإصرار الصهيوني على تحقيق حلم استيطان أرض الميعاد ولو على حساب حق أهل أرض الميلاد.
نواة كتاب بيروبيجان كانت محاضرة ألقاها يوم 13 نيسان (أبريل) 1967 على حلقة دراسية للسياسة الدولية في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة بغداد. كان عنوان المحاضرة ومحورها: "اليهود والصهيونية في علاقات الدول الكبرى (الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي)"، استهلها بتوضيح أنّ اهتمامه ليس نتيجة تمييز عنصري أو تعصب ديني، فلا عداوة مع ديانة ولا خصومة مع أحد لمعتقداته، بل الخصومة مع فكرة الصهيونية، داحضاً التشويه الإسرائيلي لحجج العرب أمام الرأي العام العالمي، وتشبيههم للعرب بالنازيين، علماً أنّ البلاد العربية من بين كل بلدان الدنيا لم يتعرّض فيها اليهود لاضطهاد وإبادة. وحكى أنّه التقى صحافياً بريطانياً صهيونياً يهودياً ذات مرة في موسكو تعرف إلى صفوة وسأله: ما هو اعتراضكم على إسرائيل، فأجابه ببرود تام: موقعها الجغرافي...
بالاطلاع على تلك المحاضرة التي شرح فيها طبقات وطوائف اليهود "اشكيناز" و"سفارديم" والتفاوت بينها، تستقر حقيقة أنّ حياتنا تاريخ متكرّر، إذ أورد المحاضر صفوة حجم الضغوط الصهيونية على الولايات المتحدة وتأثيرها على البيت الأبيض والحزبين الرئيسيين، ففي المواسم الانتخابية تشهدهما يتباريان في تأييد الصهيونية والتنافس على حيازة أكبر قدر من أصوات اليهود، وفي "مواتساتكم" مؤخّراً عمّا يتخّلل مناظرات الموسم الانتخابي الأميركي شاهداً على صحة ذلك.
كتابا نجدة صفوة ليسا الوحيدين له في هذا الشأن، فثمة كتاب آخر كرّسه لعمل الدبلوماسية الإسرائيلية، مبيناً إشكالية العمل الإسرائيلي في هذا الجانب، إذ أنّها كبقية الدول تعاني تركّز السلطة في القمة، وزادت هذه الظاهرة رسوخاً نتيجة تقاليد المنظمات اليهودية أثناء الانتداب البريطاني في فلسطين، واستمرت تلقائياً بعد قيام إسرائيل التي تعيش وضعاً دولياً خاصاً وفي أزمة مستمرة، يجعلها مع دبلوماسييها يعمدون لتدعيم كيانهم غير المشروع بممارسات أيضاً غير مشروعة، من خلال مهمّات غير معلنة داخل بعض الدول التي يُنتَدَبون إليها بطرق تتنافى والتقاليد الدبلوماسية التي تدّعي إسرائيلهم التمسّك بها، فينتهي الأمر إلى اعتبارهم شخصيات غير مرغوب فيهم ومن ثم طردهم... مستدلاً بما حدث وشهده بنفسه في الاتحاد السوفياتي مطلع الستينات من القرن الماضي.
في ثنايا بعض كتب هذا البغدادي الأنيق كما يسميه الأستاذ رشيد الخيون، يشيد بشخصيتين دوليتين رافضتين الممارسات الصهيونية الإسرائيلية وتأسيس دولتهم بتلك الطريقة، مؤكّدين أنّ الأفعال الشريرة غير المرغوبة تبطل صورة اليهود كعنصر مرغوب في الحضارة الغربية لما لهم من سابق إسهامات كبيرة. أول الشخصيتين هو المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي، والثاني الروائي والصحافي الروسي إيليا هربنبورغ...
استغرب الدبلوماسي الأديب في إحدى مقالاته عدم إعارة العرب الاهتمام بالمواقف الغربية المؤيّدة لحق العرب رغم تمويه إسرائيل، داعياً العرب إلى الاستعانة بحجج هؤلاء لإفهام العالم ما لحق بإخوانهم من ظلم وعدوان إسرائيلي. قطعاً أبطأ العرب الاستجابة لهذا المنطق يومئذ في مقابل مسارعة استجابة الحملات الإسرائيلية لهذا التحدّي بإلقاء التهمة المعلبة والمعلنة لمؤيدي حق العرب بمعاداة السامية كعادة الصهيونية إزاء ما لا يروقها.
عن كليهما كتب... فعن الروائي الروسي هربنبورغ قال: كأنّه في حمى من العمل، يقذف بالمقالة تلو المقالة، يوماً بعد يوم، في همّة مدهشة، ومن قريحة لا تنضب.
أما عن المؤرخ البريطاني توينبي، فيقول: قدرته على العمل غير طبيعية تستحق الإعجاب... وكتابته تتسم برصانة ورشاقة وقدرة على التعبير الجميل بناءً على رصيد ثقافي متين.
ما كتبه عنهما ينطبق عليه كذلك.
السفير نجدة فتحي صفوة ألقى إلينا بكتابه "من نافذة السفارة" الذي نشرت مثل وثائقها مجلة التضامن التي أسسها الأستاذ فؤاد مطر في لندن، وختم الكتاب بمادة عنوانها "الكلب الراقص" وهو تعبير مستعار من كتاب صموئيل جونسون وهو أديب انكليزي فحواه: "لا يتساءل المرء هل كان الرقص جيداً، بل إنّ مجرد أن يرقص الكلب لأمر يبعث على العجب" بحسب استعارة السفير البريطاني جونز نيكولز لذلك في تقريره الممتاز وفق رؤسائه وهو الأخير عن إسرائيل قبل أن يغادرها سنة 1957 تملأه مشاعر محبة مشوبة بالسخط، مفسراً حالته هذه (وإسرائيل كذلك) بالفصام، أو انفصال الشخصية "الشيزوفرينيا"، لما يعتري السياسة البريطانية نحو إسرائيل "القطر الذي نحن مسؤولون عن وجوده أكثر من أي دولة أخرى، ويمثل مجرد وجوده تهديداً مستمراً لمصالحنا الاقتصادية والاستراتيجية في الشرق الأوسط". "بمطالبها، والتي كثير منها غير معقول، واستجابتنا لها بالتأييد قد تسيء إلى علاقاتنا مع العرب".
اقتبس السفير من سلفه تصريحه عن شعب إسرائيل: "ليس هنالك شعب آخر أظهر مثل قدرته على فقدان عطف الآخرين". مستدلاً بتجاربه الشخصية على ذلك قبل أن يمضي بتقريره إلى شرح حقيقتين ماثلتين:
"أولها: فكرة التساهل أو التنازلات غريبة على الإسرائيليين، لأنّهم لا يعترفون إلّا بوجود وجهتين من النظر فقط: وجهة النظر الإسرائيلية، ووجهة النظر المغلوطة.
ثانيتها: صعوبة التنبؤ بإمكانية التوفيق بين اليهودي والعربي".
تجارب كثير من الناس والدول مع إسرائيل وغيرها من الأقليات المؤمنة بسلامة أهدافها ووجهة نظرها، تشترك في تأييد هذه الحقائق الثابتة والبصم عليها بالعشرة. فما من شيء يتغيّر في تفكير وسلوك البشر حتى الآن وبعد الآن.