يبدو أن الشرق الأوسط على بعد خطوات من صفقة القرن أو الصفقة الكبرى، زلزال جيواستراتيجي يعيد تشكيل الطبقات التكتونية السياسية في المنطقة؛ تتجه الولايات المتحدة والسعودية نحو توقيع اتفاق أمني، يفتح الطريق أمام التطبيع بين المملكة وإسرائيل، يعزز أمن الرياض وتل أبيب ويرسخ مكانة أميركا في الإقليم، على حساب الصين وإيران، ويلعب دوراً كبيراً في تسوية القضية الفلسطينية. علامات الصفقة تلوح في الأفق، برغم أن حكومة المتطرفين في إسرائيل تعد أكبر عائق أمام قيام الشرق الأوسط، الجديد والهادئ!
حدث في الرياض
الأسبوع الماضي أعلن وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان، في إحدى جلسات المنتدى الاقتصادي العالمي بالرياض، أن السعودية والولايات المتحدة اقتربتا من وضع اللمسات الأخيرة على الاتفاق: لدينا الخطوط العريضة لما يجب أن يحدث على الجبهة الفلسطينية؛ سنبرم اتفاقاً قريباً بشأن إقامة دولة فلسطينية. في المنتدى نفسه، أكد وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن أن الاتفاق الأمني أوشك على الانتهاء، وسيترك تأثيره على المنطقة، خاصة على الفلسطينيين.
ترى واشنطن "الصفقة" فرصة للردّ على تنامي الحضور الصيني في الشرق الأوسط، ولمساعدة إسرائيل على الاندماج مع جيرانها، وتعزيز التحالف المناهض لإيران، ما يعد نجاحاً لسياسة إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن. السعودية وإسرائيل من أبرز حلفاء الولايات المتحدة، التطبيع بينهما مصلحة مشتركة؛ تسعى الرياض إلى تحقيق أهداف داخلية وخارجية، من خلال الاتفاق الأمني مع واشنطن والتطبيع مع تل أبيب. تريد أن يكون الاتفاق مع أميركا أقرب إلى اتفاقية "دفاع مشترك"، تلتزم بموجبه بالدفاع عن المملكة، على غرار الاتفاقات مع اليابان وكوريا الجنوبية. أشارت مراكز أبحاث أميركية إلى أن واشنطن تدرس تصنيف الرياض "شريكاً دفاعياً رئيسياً" أو حليفاً رئيسياً من خارج حلف "الناتو". ترغب السعودية بدعم أميركي لبرنامجها النووي السلمي، يتيح تخصيب اليورانيوم بالمملكة، مع تزويدها بأرقى الأسلحة في الترسانة الأميركية، على قدم المساواة مع إسرائيل.
الجائزة الكبرى
وكالة "بلومبيرغ" الأميركية، قالت إن الاتفاق المرتقب يمنح السعودية مكانة مميزة، ويفتح أبواب الوصول للتكنولوجيا العسكرية الأميركية. بالمقابل، من المحتمل أن يوافق ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان على الحد من الاعتماد على التكنولوجيا الصينية في البنية التحتية للمملكة. تخشى الرياض أي هجمات من جانب إيران أو أذرعها، الحوثيين مثلاً، تعرقل تدفق صادراتها النفطية أو تعوق جهودها لجذب استثمارات لمشروعاتها التنموية، وفق رؤية 2030، الهادفة إلى تنويع مواردها الاقتصادية، كما أن الرياض وواشنطن وتل أبيب شركاء مع آخرين في "ممر بهارات" الذي يبدأ من الهند، مروراً بالخليج وإسرائيل ووصولاً إلى أوروبا، لتحييد مشروع "الحزام والطريق" الصيني المنافس.
اشترطت السعودية، للتطبيع مع إسرائيل، إقامة دولة فلسطينية. أكد الأمير محمد بن سلمان، في حوار مع "فوكس نيوز" أيلول (سبتمبر) الماضي، أن السعودية تأمل بالوصول إلى نتيجة تجعل الحياة أسهل للفلسطينيين، وتسمح لإسرائيل بلعب دور في المنطقة. وأوضح أن إدارة بايدن لو نجحت في عقد اتفاق بين السعودية وإسرائيل "سيكون الأكبر من نوعه منذ الحرب الباردة"، وأضاف: "كل يوم نقترب من التوصل إلى اتفاق جدي وحقيقي". السفير السعودي في لندن خالد بن بندر كشف، في كانون الثاني (يناير) الماضي، عن أن الاتفاق كان وشيكاً بالفعل، لولا الحرب على غزة.
لكن لا يزال من غير الواضح شكل الاتفاق الأمني بين السعودية وأميركا، القوة المحركة للاتفاق والتطبيع؛ الرئيس الأميركي بايدن متحمّس لتحقيق إنجاز كبير في السياسة الخارجية، يحد من التهديد الإيراني على المصالح الغربية، ويعيد تثبيت النفوذ الأميركي بمواجهة الصين.
على الشاطئ الآخر، يعتبر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو التطبيع مع المملكة "الجائزة الكبرى" لإسرائيل، تفتح لها أبواب الاندماج في المنطقة العربية والعالم الإسلامي؛ بكل ما لذلك من فوائد هائلة وتحولات استراتيجية بالغة التأثير. المفارقة اللافتة أن العقبة الحقيقية أمام دخول التطبيع حيز التنفيذ هي حكومة نتنياهو نفسها، مجموعة متطرفين متعصبين تهيمن على سدة الحكم، وتقوض أي محاولة للتسوية السلمية وإقامة الدولة الفلسطينية.
حجر عثرة
وكالة "بلومبيرغ"، قالت إنه عند حسم الاتفاق، سيجد نتنياهو نفسه أمام خيارين: إما الانضمام إلى الصفقة؛ ما يفتح الباب أمام إقامة علاقات دبلوماسية مع السعودية وزيادة الاستثمارات والتكامل الإقليمي، أو التخلف عن الركب، لافتة إلى أن الشرط الأساسي السعودي هو وقف النار في غزة والموافقة على خطة لإنشاء دولة فلسطينية.
يظل السلوك المتشدد من جانب حكومة نتنياهو اليمينية حجر عثرة أمام التطبيع مع المملكة وإعادة انتخاب جو بايدن لفترة جديدة. يرفض نتنياهو تقديم تنازلات للفلسطينيين في ظل تشكيلة الحكومة الحالية، لأنها ستؤدي إلى تفكك الائتلاف الحاكم الذي يحتاجه للبقاء في الحكم بعيداً عن دخول السجن بتهم الفساد. لا يكترث نتنياهو المراوغ بمخاوف بايدن من خسارة الانتخابات الرئاسية، لا يأبه لتأخير التطبيع مع المملكة؛ يعتبرها عملية حتمية؛ قطار التطبيع العربي انطلق، وسيواصل مسيرته للنهاية حتى لو توقف برهة.
تعمل الإدارة الأميركية بكل طاقتها لتوقيع الاتفاق؛ تجد نفسها في ظروف صعبة، قد تعصف بفرصة إعادة انتخاب بايدن لرئاسة الولايات المتحدة؛ تدرك واشنطن أن السعودية ليست في عجلة من التطبيع دون حل مقبول للقضية الفلسطينية، كما تعي إدارة بايدن أنها عاجزة عن ممارسة ضغوط حقيقية على الحكومة الإسرائيلية لتقديم "الجزرة" إلى السعودية قبل فوات الأوان؛ ستصبح الإدارة الأميركية الخاسر الأكبر إذا لم تتم عملية التطبيع، قبل حلول الانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل.
طرف آخر يراقب الأمر بقلق وامتعاض، إيران التي تعتبر أي تطبيع مع إسرائيل طعنة في الظهر للفلسطينيين، وفقا لتصريح الرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي، بينما تخشى فعلياً أن يؤدي تطبيع العلاقات بين إسرائيل والمملكة إلى إعادة التوتر بين السعودية وإيران من جديد، وتغيير جذري لموازين القوى في المنطقة على نحو لا يمكن لطهران احتماله.
الغموض سيد المشهد الإقليمي، خاصة أن عقبات سياسية وأمنية لا تزال تشكّل حاجزاً أمام هذه الخطوة التاريخية في الإقليم، الزمن وحده قادر على إعلان "القول الفصل" في التطبيع!