منتدى اقتصادي عالمي ضخم يُقام للمرة الأولى على أرض المملكة العربيَّة السعوديَّة، بمشاركة ممثلين عما يزيد على 90 دولة حول العالم، وكانت كل القضايا حاضرةً على مائدة النقاش، فالمنتدى عنوانه اقتصاديّ، ولكنه يحمل في ثناياه السياسة وأموراً أخرى فرضت نفسها بسبب الاضطرابات الجيوسياسيَّة والتوتّر الحادث في المنطقة على خلفية الحرب الإسرائيليَّة على قطاع غزَّة، والتي بدأت تتجه نحو منحى خطير وغير مسبوق في تاريخ الصراع الذي يعود إلى منتصف القرن العشرين.
كانت دلالات المنتدى إيجابيةً وتُشير إلى دقَّة التوقيت، وبراعة اختيار الموضوعات من قِبل المملكة العربيَّة السعوديَّة، البلد المُنظِّم له؛ ما جعله خلية نحل بحضورٍ تجاوز 1000 شخصية عالميَّة، بينها قادة وزعماء دول، وهو ما يؤكَّد أن الرياض باتت حاضنةً للفكر العصريّ الحديث، ومقصداً عالمياً مهماً للابتكار وريادة الأعمال والتنمية المُستدامة، ومنبراً لمناقشة قضايا تشغل بال العالم المُتقدِّم والنامي على السواء، إضافةً إلى أن السعوديَّة أصبحت يقتدي بها عدد كبير من البلدان التي سارت على خُطاها في إعداد "رؤية 2030"، بعدما نجحت المملكة في التخطيط والمضي قدماً في تنفيذها بما شجَّع غيرها على تبني الفكرة.
البيئة والتغيُّرات المُناخيَّة، ومساهمة الفنون في المجتمع، وريادة الأعمال، والذكاء الاصطناعي، والعملات والمدن الرقميَّة، والصحة العقليَّة، كانت في طليعة محاور المنتدى الثَّريَّة بقضايا الساعة، والتي تسعى في مُجملها إلى تحسين جودة حياة الإنسان والخدمات المُقدَّمة له في الصحة والتعليم وكل مناحي الحياة، فكلُّ تقدم علميّ ترجى منه خدمة البشريَّة وتسخيره لمصلحتها.
وأرى أن إقامة هذه الفعالية الضخمة لخيرُ تعبيرٍ عن الثقة الدوليَّة بالمملكة العربيَّة السعوديَّة وقيادتها الحكيمة بزعامة الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان؛ لنجاحهما في تحويل الرياض إلى قِبلة لأصحاب المال والأعمال، يجدون فيها مُبتغاهم من بيئة استثماريَّة جاذبة تتسم بكل مظاهر الحداثة الفكريَّة، وتتمتَّع بتطور البنية التحتية وصلابتها.
وليس أدل إلى النجاح المُنقطع النظير للمنتدى، إلّا ثمار حصاده ومن بينها توقيع اتفاقيَّة لإنشاء "مركز مستقبل الفضاء"؛ ليكون الأوَّل من نوعه في المملكة، في خطوة تُسهم بلا شك في نمو مجالات الفضاء الاقتصاديَّة والبحثيَّة والابتكاريَّة، ما يُتيح الوصول إلى مجتمع الثورة الصناعيَّة الرابعة الذي تسير السعوديَّة إليه بخطى مُتسارعة للحاق بركْب الدول المُتقدِّمة في هذا المجال.
وبلا شكٍ لا يُمكن الحديث عن الاقتصادِ من دون الخوض في السياسة ودهاليزها، فكلاهما مُترابطان ويتكاملان معاً، فالتوتُّر السياسي يخلق حالةً من عدم الاستقرار تُؤثِّر سلباً على الاقتصاد، ولنا في الحربِ الروسيَّة الأوكرانيَّة خير مثال، وكذلك الحرب على غزَّة، وفوق كل هذه الاعتبارات تبقى القضية الفلسطينية حيةً في قلب كلّ سعوديّ، والشغل الشاغل للمملكة، حتى الوصول إلى حلّ عادل وحاسم يتم بموجبه حل الدولتين وإقامة الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران (يونيو) 1967.
الرياض لم تغفل في هذا الحدث الفريد من نوعه قضية العالم الأولى، بالأمس واليوم، والتي تُؤرّق كل صاحب ضمير حي، القضيَّة الفلسطينيَّة، وما يحدث لشعب فلسطين بأكمله، الذي يُواجه القتل وشبح الإبادة الجماعيَّة في كل لحظة، فهو دائماً في دائرة اهتمام قادة المملكة الذين تعاقبوا على قصر الحُكم منذ نشأة الأزمة الفلسطينيَّة، وتماشياً مع هذا النهج كان للمملكة مواقفها في السنوات الماضية التي سيُخلِّدها التاريخ بأحرف من ذهب في سجلاته التاريخيَّة.
فبعد مرور نحو 7 أشهر على بدء العمليات العسكريَّة الإسرائيليَّة على قطاع غزَّة، التي جاءت رداً على "طوفان الأقصى"، كادت تختفي الأصوات المُتضامنة والمُتعاطفة مع الفلسطينيين بعدما كانت مُشتعلة الحماسة في بدايتها، ثم ما لبثت أن هدأت حِدَّتُها حتى داخل الدول العربيَّة والإسلاميَّة نفسها، وما بقي إلّا صوت طلاب جامعات أميركا وأوروبا يصدح في أروقة جامعاتهم، والذين لم يُثنهم الاعتداء والقبض عليهم عن مواصلة التعبير عن غضبهم نُصرةً للحق الفلسطيني في الحياة.
ويبقى صوت المملكة الذي لم يغب يوماً عن قضايا العرب وهمومهم وسط الصمتِ الرهيبِ مدوياً في كلّ محفل، إقليميّ أو دوليّ أو عالميّ، ولعلَّ المنتدى الاقتصادي العالمي الأخير خيرُ شاهد؛ حينما وَضعت القضيَّة على دائرة النّقاش، لإحداث حالة من الزخم حولها، فكانت كل الأطروحات إيجابيةً ولمصلحة القضيَّة المحفورة في قلب المملكة وقادتها وعقلهم عبر الزمن.
ظنّي أن السعوديَّة عانت كثيراً من قرار "حماس" غير المحسوب العواقب والنتائج التي كانت كارثيةً بالطبع، في 7 تشرين الأول (أكتوبر) الذي ظلمت به القضيَّة والشعب الفلسطيني الذي فَقَدَ أكثر من 100 ألفٍ من أبنائه بين جريح وقتيل، لتكون "حماس" شريكاً في هذه المأساة، وقد كانت الرياض حينئذ على مشارف توقيع اتفاق أمنيّ مع الولايات المُتحدة الأميركيَّة لتحقيق مصالح المملكة عبر توقيع مسودة التطبيع مع إسرائيل، ولكنها تراجعت بعد أحداث "طوفان الأقصى" من أجل فلسطين وعدالة قضيتها، بل إنها ربطت المُضي قدماً في هذا الاتفاق بضرورة حل الدولتين، وإنهاء مأساة الفلسطينيين.
ومن خلال قراءتي للمشهد وتطوراته الحاليَّة، أُؤكِّد ما سطَّرته سابقاً في مقالاتي هنا أو في وسائل إعلاميَّة أخرى، وهو أن "حماس" تعيش السطور الأخيرة في قصة وجودها التي ستصل إلى نقطة النهاية عقب انتهاء الأزمة الراهنة التي دمَّرت الأخضر واليابس في قطاع غزَّة، الذي بات بحاجة إلى عشرات السنوات، وكذلك عشرات المليارات من الدولارات لإعادة تأهيله من جديد ليكون صالحاً للحياة، ولن يعود كما كان قطعاً، هذا عن الحجر، أما البشر الذين راحوا في هذه الأحداث فلا تعويض يُكافئهم، وزوال "حماس" لا يعني انتهاء الرواية في غزَّة، فليس كل سكانها ينتمون إلى الحركة التي بدأت تتهاوى وتتخلّى عن كبريائها بالتقرّب إلى السلطة؛ في محاولة للتنسيق معها وإنقاذ ما يُمكن إنقاذه بالنسبة إليها، ولكن الرجوع الحمساوي جاء متأخراً ولن يفلح.
وبرؤية متواضعة؛ أرى أن ضعف "حماس" مُستمدٌ من الخارج أكثر منه من الداخل، بعدما تخلّى عنها الصديقُ والحليف، فلم يعد معسكر المقاومة في العراق واليمن ولبنان على الوتيرة نفسها من الاستعداد لنُصرة الحركة المأزومة، كما توارت عن الأنظار فكرة توحيد جبهة المقاومة، كما كانت تزعم في الأسابيع الأولى لـ"طوفان الأقصى".
وختاماً بإيران الداعم الأول لـ"حماس"، والتي تعتمد عليها كذراع تسخّرها في المنطقة كيفما شاءت ومتى استدعت مصالحها، لم تحرك ساكناً للسوريين وهم حليفها الأكبر من أجل دعم "حماس" في مواجهتها الحالية مع إسرائيل؛ لأن طهران لا ترغب في خسارة معسكر سوريا لما يُمثِّله لها من بُعد استراتيجيّ مهم ضحَّت من أجله كثيراً خلال السنوات التي أعقبت ما عُرف بالربيع العربي، إضافة إلى أن سوريا نفسها تحتاج إلى أموال الغرب وحنينه عليها حتى تلتقط أنفاسها المكتومة تحت نار الفرقة والشتات، فما لها من نهضة إلا بتوحيد سوريا وهذا لن يكون إلا بدعم اقتصاديّ، وفك الخنقة الغربية عليها، لذا تنأى عن الصراعات حتى تنأى بنفسها عن الوقوع في براثن حرب ولا تجد حينها قوةً ولا نصيراً.