مهما قيل عن الاحتجاجات الواسعة التي شهدتها الجامعات الأميركية؛ لا يمكن إنكار كونها تعبِّر عن مزاج شبابي جديد ينطلق من فهم مختلف لما يجري في منطقة الشرق الأوسط، وينقض الصورة التي تروِّج لها الدعاية الإسرائيلية التي تلاقي مساندة واسعة من الدوائر الحاكمة، ومن الجهات النافذة في الأوساط السياسية والاقتصادية والمالية والإعلامية، ولغالبية هؤلاء جداول أعمال نفعية أحياناً، وأيديولوجية أحياناً أخرى، ولا تتلاقى مع الوقائع الدامغة لحقائق الصراع في الشرق الأوسط، لا سيما في ما يتعلَّق بالقضية الفلسطينية، التي هي قضية حق لشعب مضطهد ومشرَّد، سُلبت أرضه بالقوة، وهو محروم من إقامة دولته المستقلة كاملة السيادة كما لكل شعوب الأرض.
وملامح وجود مزاج جديد لجموع هائلة من طلاب أعرق الجامعات الأميركية تأكد من خلال مجموعة من المظاهر الواضحة. أولها شمولية التحركات بحيث إنها حصلت في أكثر من 47 جامعة من أبرز المؤسسات التعليمية الراقية على المستوى العالمي، وهي توسَّعت لتنتشر في أكثر من جامعة مهمة، خصوصاً في أوروبا. ولأن المشاركة في هذه الاحتجاجات والاعتصامات لم تقتصر على طلاب ذوي جذور عربية أو إسلامية – كما حاولت الدعاية الإعلامية الصهيونية تصويرها – بل شملت طلاباً أميركيين من أصولٍ مختلفة ومتنوعة دينياً وعرقياً وحزبياً.
وقد فشلت الدعاية المناهضة للتحركات في تشويه صورة التظاهرات الكبيرة من خلال دسّ بعض الشعارات والأعلام الحزبية (لحماس وحزب الله) بين صفوف المعتصمين المتنوعي الانتماء، للإيحاء بأن منظمات محددة تقف وراء التحرُّك. وتأكد وجود رأي عام مؤثر يحتضن التظاهرات الطلابية، ولأسباب متعددة، قد يكون أهمها القنوط الذي يصيب شرائح شعبية كبيرة من الجمهور الأميركي – والطلابي على وجه الخصوص – من إغداق التمويل السخي من ضرائب الشعب الأميركي لإسرائيل، وتقديم أحدث الأسلحة الفتاكة لجيشها، وهو يستعمل غالبيتها ضد المدنيين العُزَّل، ويدمر المستشفيات والمدارس والجامعات ودور العبادة، بينما الطلاب الأميركيون يدفعون مبالغ طائلة لتسديد أقساط جامعاتهم، ويرهنون نتاج سنوات من عملهم بعد التخرُّج لتسديد ديون هذه الأقساط الممنوحة لهم بفوائد ًمن البنوك.
والوعي العام لدى عدد كبير من جمهور الطلاب الأميركيين يتمدَّد إلى مساحات فكرية وثقافية جديدة، كانت مقفلة على هؤلاء، بسبب الدعاية السامة التي تستخدمها حركات متطرفة تخدم السياسية الإسرائيلية، خصوصاً منها موضوع المعاداة للسامية، وهو ما تلحظه بعض القوانين الأميركية كونه شكلاً من أشكال التمييز العنصري المرفوض، بينما شعار "معاداة السامية" الذي أطلقه الباحث الألماني فيلهم مار في منتصف القرن التاسع عشر لمواجهة العداء الذي كان موجهاً ضد اليهود في أوروبا، فُهم على غير حقيقته في ما بعد، لأن الشعوب السامية وفق ما جاء في سفر التكوين، هم الذين يتحدثون اللغات السامية من العرب والعبرانيين والآشوريين وغيرهم، وليسوا اليهود تحديداً كما تحاول الدعاية الإسرائيلية الإشارة إليه للاستفادة السياسية منه. والعرب على وجه الخصوص هم أبرز الشعوب السامية، وبطبيعة الحال ضد معاداة السامية، ولا يقبلون رفع هذا الشعار على الإطلاق، بينما يحاول البعض تحوير تفسيره لكي يطال في ضرره الشعوب العربية أيضاً.
وعلى الضفة الأخرى من مجرى الهياج الجامعي المنقطع النظير في أميركا؛ نرى تغييرات أخرى لها طابع استراتيجي، كما تحمل أبعاداً مستقبلية، ومنها تنامي التيار اليساري المتشدَّد داخل صفوف الحزب الديموقراطي، وهؤلاء يعترضون على سياسة الرئيس جو بايدن تجاه ما يحصل في فلسطين، ولا يوافقون على كون الضربات الإسرائيلية التي أسفرت عن سقوط ما يزيد عن 120 ألف بين شهيد وجريح من الفلسطينيين هي عبارة عن رد فعل إسرائيلي على عملية 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، بل إنها تخفي خطة تصفية عرقية لشعب بكامله، ولدفع الفلسطينيين إلى مغادرة بلادهم، كما أنها تضع الولايات المتحدة الأميركية في موقف العاجز عن توقيف العدوان الذي ترتكب فيه جرائم دولية كبيرة مخالفة لمندرجات القانون الدولي الإنساني الذي ساهمت في وضعه واشنطن، لا سيما منه تحريم الإبادة الجماعية واستخدام أسلحة ممنوعة وتجويع المدنيين وقصف المستشفيات وفرق الإغاثة.
وخطاب الرئيس جو بايدن الذي تناول فيه ما يجري من تحركات طلابية تواجهها قوات الأمن بعنف في بعض الجامعات؛ أمسك العصا من منتصفها، لأنه يعرف تماماً أن ما يجري ليس محاولة من المنظمات المتطرفة لتعميم الفوضى كما تقول الدعاية المتعاطفة مع إسرائيل، بل انتفاضة طلابية عارمة، لا يمكن تحريكها بدوافع مشتبه فيها، وهي ناتجة من قناعة راسخة لرأي عام واسع يعتبر أن ما يجري في فلسطين ظلم واضح، ومذبحة ضد الشعب الفلسطيني يجب أن تتوقف. وبايدن الذي أعطى الحق للطلاب بالتعبير عن الرأي الذي تكفله القوانين الأميركية، قال أيضاً إنه لا مكان لمعاداة السامية في بلاده، ولم يُدن تصرفات الشرطة بحق بعض المتظاهرات من الطلاب، وهي تجاوزت في قمعها كل الحدود، وفي هذا الموقف؛ يدرك بايدن أنه قد يحصد خسائر كبيرة في الانتخابات القادمة إذا ما استمرَّ في سياسته الحالية في تشجيع العدوان والتعمية على الجرائم التي ترتكبها إسرائيل، وبعض التمايز الذي حصل لا يكفي.
من الواضح أن تغييرات تحصل في مزاج الرأي العام الأميركي خصوصاً، والغربي عموماً، ونتائج الانتخابات المحلية في بريطانيا أكدت هذه الوقائع، وشرائح شعبية كبيرة وجهت صفعة لحزب المحافظين بالصناديق، ومن خلال المقاطعة، لأنه ساند بقوة الموقف الإسرائيلي.