النهار

الإبداعيَّة الأدبيَّةُ في منظور الذّكاء الاصطناعيّ
المصدر: النهار العربي
أمام التحدِّيات الَّتي يفرِضُها الواقع الرقمي اليوم، يكون من الضرورة بمكان ترسيخ "مفهوميَّة للأدب"، والمصطلحات النقديَّة، الَّتي قد تختلف من ثقافة إلى أخرى، ومن بيئة إلى سواها، إذ يوصِّفها رولان بارت بقوله: "إنَّ الأدب ليس سوى لغة؛ أي نظام من العلامات، ووجوده ليس في رسالته، بل في هذا النظام-رسالة".
الإبداعيَّة الأدبيَّةُ في منظور الذّكاء الاصطناعيّ
رسم تعبيري
A+   A-
د. منى رسلان*
 
ثمة من يرى أنّ الأدب الإلكتروني، إنَّما يعمل على تشابُك طُرق الإنسان مع الإدراك الآلي من خلال المعالجة الرقميَّة والتناظريّة، وأشكال الأدب الإلكتروني والتقنيات الرقميَّة المحيطة به أو تلك المنتِجة له، ووسائل الإعلام المطبوعة والإلكترونيَّة كافة. وثمَّة من يرى في محاولة التغيير هذه، ذوباناً لتمايز الهُويّة الثقافيَّة للمجتمعات العربيَّة، وإمكانيَّة الذوبان أو الاضمحال المحلي أو ذاك الثقافي أو الأيديولوجي أو حتّى القومي في ثقافات متناقضة أو وافدة، فيسعى للتمسّك بكثير من العناصر والعوامل الثقافيّة في تشكّلِه الوجودي والإنساني، معتبراً أنَّ الذكاء الاصطناعي إنَّما يلغي التميّز ، الفردي والجمعي، كما يلغي الشعريَّة الأدبيَّة، والتراث الأدبي أو الفكري أو الحضاري أو الحياتي للمجتمعات كافة.
 
من هنا قد ينشأ وجود ثقافي "غير ناضج"، سيواجه صعوبة حقيقيَّة في التفاعل الإيجابي المُطوِّر للحياة، والثقافة والأدب والفن والترجمة، وسوى ذلك الكثير من مُقوِّمات التقدُّم الحضاري والتكنولوجي الأٌممي.
 
تُعتبر اللُّغة العربيَّة، لُغَّة الضَّاد، إحدى أقدم اللّغاتِ عُمراً وأكثرها انتشاراً في العالم، إذ يتحدَّث بها ملايين البشر. وهي لغة الإعجازِ القرآنيّ، ولغة البيان النبويّ، واللُّغة الّتي حفظتها الكتب الدينيّة والّتي احتوت علوم العرب كافَّة على مرّ العصور والعهود، واحتضنت الأدب العربي نثراً وشِعراً، فخلَّدها الأدب العربي، بعدما تغنّى بها الأُدباء والشعراء والنقّاد والمفكِّرون والفلاسفة. فكيف هي الحال بالنسبة إلى اللّغةِ العربيّة، وجماليّاتها التعبيريّة، الشعريّةِ منها والمجازيّة، برؤاها الشعوريّة؟ واللغة العربيّة فيها من الخصائص الكثيرة والّتي تميِّزها عن سواها من اللّغات الأخرى. يقول الشاعر أحمد شوقي:
 
      إِنَّ الَّذي مَلَأَ اللُغاتِ مَحاسِناً        جَعَلَ الجَمالَ وَسَرَّهُ في الضادِ
 
تعدّ اللّغة العربيَّة الوِعاء الّذي يعيّر الإنسان العربي من خلاله عن أفكاره ومشاعره وقلقه وشجونه وأفراحه وأتراحه، إلى طموحاته وآماله. فالعلاقة الوطيدة ما بين اللّغة والفكر الإنساني، إنَّما تشكّل الموروث الإنساني الأصيل بما يختزنه من ثقافة و هُويّة وتاريخ وحضارة.
 
لا مندوحة من القول إنّ الموروث الثّقافي العربيّ يرتبط باللّغة العربيّة ارتباطاً وثيقاً. فهي لغة تختزن فيها ثروة لغويّة وتختصّ بها، وكلّ ما يتّصل بذلك من أسرار وإعجاز وسمات وفنون تعبيريَّة؛ وانمازت بدقّة الفصاحة والجودة، الإيجاز، سلامة التراكيب، وقدرتها على استيعاب اللّغات المختلفة الأخرى؛ واحتفاظها بمقوّماتها الصوتيّة كافة.
 
نسمعها تقول بلسان الشاعر حافظ إبراهيم:
أنا البَحْرُ في أحشائِهِ الدُّرُّ كامِنٌ       فهل ساءَلوا الغَوَّاصَ عن صَدَفاتي؟
 
وأمام التحدِّيات التي يفرضها الواقع الرقمي اليوم، يكون من الضرورة بمكان ترسيخ "مفهوميّة للأدب"، والمصطلحات النقديّة، التي قد تختلف من ثقافة إلى أخرى، ومن بيئة إلى سواها، إذ يوصّفها رولان بارت بقوله: "إنّ الأدب ليس سوى لغة؛ أي نظام من العلامات، ووجوده ليس في رسالته، بل في هذا النظام - رسالة". ويُحدِّد الدكتور وجيه فانوس مسألة المصطلحات النقديّة، بقوله: "لئن كانت مصطلحات النقد الأدبي، تشكّل تعبيراً عن الوجود الإنساني الذي يتبناه أو يتفاعل مع النص الأدبي من خلالها، فإنّها  ترتبط في هذه التعبيريّة بمفهوميّة هذا الوجود الإنساني للأدب"، ومفهومية قيمه الروحيّة والاجتماعيّة والإنسانيّة، ونشاطاً جمالياً يتّخذ من اللغة مادته كي يتجلَّى بصوره الشعريّة. كما تفضي إلى عدم اعتبار الشعر مجرد لغة؛ وينساق ذاك الأمر من خلال سُبل الكشف عن الجوهر غير اللغوي للأدبية. ما يفتح المسار أمام مجال "تأويل النصوص" في مراحلها الثلاث: الفهم / التفسير / والتطبيق؛ تأسيساً لنظريات القراءة والتلقي المساندة لبلاغة الخطاب. ومما لا شك فيه أن فلاسفة التأويلية ينظرون في الترابط التفاعلي ما بين البلاغة المحدثة وتأويل النصوص، إذ يُدرس فيها الأدب بإسنادات مختلفة، وضرورة تأويل النصوص انطلاقاً من منطق العلوم الاجتماعيّة على سبيل المثال لا الحصر؛ وبلاغة التعاطف والتماهي.
 
لا ريب أنّ إشكاليّات جمّة تطال دور الأدب والأديب والمتلقّي؛ كما تكمن الإشكاليّات في أي لغة شعريّة نريد، في عالم يسوده AI علم البرمجيات الحاسوبيّة. وكيف ستتمثّل الإبداعيّة الأدبيّة للكاتب في منظور الذكاء الاصطناعي"؟ وكيف تتشكّل الأسس الفنّية واللغويّة.. لـ"النص المُصطنع" أو "النص المُولَّد تكنولوجياً " الجديد.
 
إنّ الأدب المُولَّد إنسانياً، إنّما يضيء على مادة الأدب "إبداعياً" فردياً / فرادة المؤلّف أو الشاعر أو الكاتب أو المسرحي؛ وعليه تشي تحدّيات الأدب واللغة الشعريّة في مواجهة حتميّة مع العمليات الحسابية والبرمجيات الحاسوبية المتقدّمة، واحتياج الكُتّاب إلى الأساسيات في فهم التكنولوجيا الحسابية والبرمجة، إنتاجاً لأدب إلكتروني – رقمي، يتّسم بطابع الأدب التعاوني _ التشاركي بطبعه، والمُنتَج من خلال العمليات التفاعليّة ما بين المؤلِّف والمُبرمج والبرامِج الحاسوبيّة وخوارزميّاتها، وتلك النصوص المُنتجَة من قِبل الكاتب، مع ما يتطلّبه ذلك من لغتين: لغة النص الأدبيّة (شعراً أو نثراً)؛ كما لغة البرمجيات الحسابيّة؛ إلى إتقان لغة أجنبية أو أكثر.
 
فهل سيُحدث التطوّر الرقمي، مع ما ينتج منه من مخاوف متعدِّدة لدى كلّ من الكُتّاب والقارئ، جرّاء السرقات الأدبيّة وقوامها النسخ واللّصق، والانتحال العلمي؛ هذا ناهيك بشلل في الممارسات الفكريّة، نتيجةً حتميّة للسرقات الأدبيّة وسواها، وانتحال صفة كاتب أو باحث أو عالم بالاستيلاء على الإنتاج الفكري والمعرفي للعالم أو الكاتب الأساس، ناهيك بإلصاق صفة المُفكّر والناقد والمُؤرّخ والعالم والمُخترع لجهلة في التثاقف المعرفي، والّذي يُعدّ "فِعلَ تشويه" للعقل المُفكِّر والباحِث المُجد والقارئ الخلاق، إلى شيوع السرقات المعرفيّة لأُمم وخلائق واستسهال استِلابها، من دون "هضم" لتلك المعرفة ومندرجاتها. وهذا ما يحتاج إلى دراسات مستفيضة في هذا المضمار، ويتوجّ إلزاميّة الدول والمؤسسات والأنظمة المشغِّلة لتلك البرامج الإلكترونيّة وتطبيقات الذكاء الاصطناعي والثورة الرقميّة، بتطبيق القوانين الصّادرة عن الأُمم المتّحدة، وايجاد قوانين تراعي خصوصيّة البلدان، كما خصوصيّة الإنتاج المعرفي والثقافي والإبداعي وسواها الكثير والتي ينتجها الأفراد أو المجتمع، وتفعيل حضورها في هذا العالم الرقمي المهول.
 
مِمّا لا شكّ فيه أنّ الأدب الإلكتروني أصبح فرعاً مستحدثاً من فروع الأدب العربي أو الغربي، والّذي يتمّ نشرُهُ وتسويقه بواسطة وسائط الاتصال الإلكترونيّة، والهواتف الذكيّة، والأجهزة المحمولة أو تلك Virtuel؛ ما يعطي الكُتّاب مروحة واسعة من الخيارات عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ويفتح الباب أمامه كي يكون هو المُؤلِّف والمُنتج النصِّي، والمُسوِّق التقني، والمُخرج الفنِّي باستخدامه وسائل صوتيَّة أو فيديو مرئي، ما يُشيعُ جوَّاً تقارُبيَّاً ما بين "النصَّ" المُنتَج والمُنتج للنص ومعرفته بتقنيات التواصل الإلكترونيّة والقرّاء في عمليّة تبادليّة للأفكار والفنون على سبيل المثال لا الحصر؛ وأيضاً إتاحة مجال مشاركة القرّاء في هذه العمليّة التصويريّة  والفنِّية، التي لربّما تتحوّل إلى عمليّة إبداعيّة، إذ ما أحسن الكاتب / مثلاً توظيف التطبيقات الرقمية لينشر نصَّه.
وبناءً عليه، يستطلِعنا السؤال التالي: كيف سيتبدّى الإبداع الأدبي، في ظلّ الذكاء الاصطناعي ورؤاه الاستشرافيَّة؟
وهل تمكّن العالم العربي من استشراف الأُفق المستقبليّة للأدب الإلكتروني؟
 
تُطالعنا بعض التجارب بأنّ الأدب الإلكتروني في العالم العربي يتجلّى بمحدوديّة الانتشار، في ظِلِّ وفرة مواقع التواصل الاجتماعي وتوفّر الذكاء الاصطناعي بوسائلِه المتميِّزة العصريّة والاستشرافيّة للمستقبل.
فما زال القارئ، والكاتب العربي على حدّ سواء، يتمسّكان بعادة القراءة الورقيّة - الصامتة، بتفصيلاتها التقليديّة، وما زال التعليم ورقياً في بعض المدارس والمعاهد والجامعات. فأنّى نحن من المحتوى الإلكتروني والوسائط العصريّة؟
 
لا مندوحة إطلاقاً من أنّنا نُعاني في العالم العربي، مع فن القراءة الإلكترونيَّة، بوعي أو من دون وعي، فإنَّ الحنين إلى تأبُّط كتاب واقتناء كتاب، ورصّ صفوف الكتب في المنازل والمكتبات العامة والخاصة، إنَّما يندرِج في معطى الحنين إلى الماضي بموروثاته الجمّة، وبعاداته وتقاليده وعادات القراءة التقليديَّة للكُتب.
 
هنا نشير إلى حتمية تأثّر اللّغة العربيّة بالعالم الافتراضي والمُفكِّرة الرقمية / والرقمنة المُعاصرة، بشكل وفير، غير أنَّ العرب لم يُعرِضوا عن استخدام العربيَّة_ لغة حياة وتطوُّر مستمرة، بشكل أوسع في صوغ المواضيع والمُحادثات والبث التلفزيوني الرقمي عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والبريد الإلكتروني، وصفحاتهم الخاصة على "فايسبوك" وسواها؛ مع سعي بعض الدول العربيّة ومؤسّساتها المعرفيّة والثقافيّة والبحثيّةِ في استنهاض متون ترجمة البرامج والتطبيقات والتكنولوجيا إلى اللغة العربيّة، وتحديثها كل فترة تماشياً مع روح الرقمنة وعصر التقنيات الحديثة والبرامج وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، بما يشي باستنهاض المواضيع والقضايا التي يتناولها الكُتّاب العرب، والغرب، وما تثيره تحدِّيات التكنولوجيا وخوازرمياتها في الحياة اليوميَّة، وسبكها ضمن قوالبهم اللغويّة نثراً وشعراً ومسرحياً وسينما وفنوناً تصويريَّة بصريَّة وسمعيَّة، فالصوت يُساعد المخيال العربي على اعادة تصوير فعَّال للحياة والحركة، كما للعيش والوجود والمعرفة، سواء كان فعلاً حقيقياً أم كان واقعاً مُتخيَّلاً، وسوى ذلك، ما يُثري الأدب ويزيد من تجربة القراءة وتُحفّز القرّاء والمبدعين على السواء، ويُلبّي الاهتمامات والذائقة الفكريَّة والأدبيّة والفنيّة والشعوريّة والإنسانيّة للمُتصفّح العربي، بما يشكّل ثقافة مجتمع تكنولوجي بحدّ ذاته.
وعليه، يصبح الأدب الإلكتروني المعاصر والمستقبلي مجالاً رحباً لتثاقُف عربيّ – عربيّ، وعربي  _ معولم.
مع أننا لا نخفي دور المنظَّمات (الأجنبية / والعربيَّة) التي سعت وسوف تسعى باستمرار إلى خلق ثقافات بعينها، وهي تعمد إلى نشر الأعمال الأدبيّة والمؤلّفات والدراسات النقديّة والفكريّة والابداعيَّة المواكبة لروح الرقمنة العصريَّة، وتلك الأعمال الأدبية الخاصة بالأدب الإلكتروني، في جميع أنحاء العالم.
 
بذا، يُتيح الذكاء الاصطناعي للمبدعين من الكُتّاب والفلاسفة والمُفكِّرين الرؤيويين، مروحة واسعة تكنولوجياً، وفرصة لاستخدام أدوات مُتطوِّرة تُماشي المُستقبل الرقمي بأدواته الإبداعيَّة. وعليه، سوف يتيح الذكاء الاصطناعي للكُتَّاب توليد معانٍ وأفكار فريدة، وصوغ صور فنِّيّة وابداعيّة جديدة، ويفتح الأُفق المعرفي والذوقي أمام خيالات تكوينيَّة جديدة لروايات وقصص وحكايا، مُختلفة. وقد تؤرِقُنا فاعليَّة الحاسوب وآلات الطباعة _ القارئ الالكتروني الَّذي يعمل – جنباً إلى جنب مع المُؤلّف الحقيقي/ الفعلي للنص، كـ مُؤلِّف مُشاركٍ في العمل الأدبي من خلال الذكاء الاصطناعي. فلا بُدَّ ههنا من فهم الآلة المُنتجة للنص، فهماً وتأطيراً وذلك من خلال العمل التفاعُلي للبرامج وبرمجتها، هذا ناهيك بالتطوُّرات الهائلة والسريعة للوسائط الحاسوبيَّة، وأنَّ الآلة في تطوُّر مستميت، غنيَّة ومُعقدة جداً، وتُحاكي الكتابة والقراءة والترميز.
 
عليه، تتمظهر أنواع مختلفة من النصوص الإلكترونيَّة، بعد أن أمَّنت الكتابة الإلكترونيَّةِ للكُتَّاب والمُستخدمين مُميِّزات عدَّة، وسهولة تركيب الصورة، والصوت، والرسومات، وإنشاء محتوى فيديو يتضمَّن نصاً نثرياً أو شعرياً مثلاً أو مقالة أو قصَّة قصيرة، وتوضيحاً لمسألة بذاتها، ونشره بسرعة فائقة من خلال الاتصال بالشبكة العنكبوتيَّة عالمياً؛ ولينفتح النص على فضاء رحب معولم، غير تقليدي حتماً، بابداعِ تفاعُلي إنساني، لن يحُلَّ مكان الانسان المُبدع في المدى المنظور أو المُستقبلي، ما دام الذكاء الاصطناعي وُجد / أوجده الانسان كأداة مُساعدة له، بيد أنَّها _ في المدى المنظور_ لن تتمكَّن من اختبار التجربة الشعوريَّة والعيش الانسانيّ للكاتب.
 
يقف الأدب الالكتروني اليوم على مشارف مُستقبل فريد ومُثير في آن معاً، للاستكناه والاكتشاف على الرّغم من كثرة التشعُّبات والمُعوّقات والتحدِّيات المُصاحبة له.
 
فهل يستطيع الأدب الإلكتروني بلوغ أدبويَّة النص الجديد، والإبداع، بما يتضمَّنهُ من الترادف اللفظي والتصويري والجمالي والموسيقي، لبلوغ الإبداعية الأدبية في منظور الذكاء الاصطناعي وعالم البرمجيات الحاسوبية؟
 
هذا ما ستُفضيه التجرُبة الانسانيَّة وعيش الكتابة الإبداعيَّة، في اتّساع مدى التجاذبات ما بين الماضويَّة والحداثويَّة، وما بين العالم الرقمي التفاعُلي، والإنسان المُبدِع الخلاق.
  
*أستاذة جامعية
 

اقرأ في النهار Premium