الياس البراج
باستثناء حالات الاستسلام الواضح أو تحقيق "نصر مُبين"، يحتدم النقاش أو الاختلاف حول تقييم مدى الانتصار أو الانكسار حين تطول الحروب، وتبرز ظاهرة كهذه في حالات عديدة ومُلتبِسة، منها عجز أي طرف عن تحقيق "كل" أهدافه (من دون استثناء) في وقت قد يحقّق الآخر، مثلاً، هدفاً واحداً فقط أو الارتفاع الكبير في الخسائر. وعلى هذا يمكن استمرار الجدل حول النصر والهزيمة إلى ما بعد انتهاء الحرب، وربما من جيل إلى جيل، حتى أنّه قد ينتقل إلى سجلات التاريخ المدوّن وإلى باقي أشكال السرد.
وغالباً ما تقف وراء التباس نتائج الحروب أسباب عديدة منها:
1) الاختلاف في معايير قياس الهزيمة والانتصار من طرف إلى آخر.
2) تعذّر قياس "كل" ما تحقق فعلاً و"كل" ما لم يتحقّق من أهداف كل طرف، ومدى تناسب كل هدف محقّق مع مقدار الخسائر، وبخاصة في الأرض والأرواح.
3) صعوبة تقدير الانعكاسات/النتائج المعنوية ووقعها النفسي والثقافي والسياسي وغيرها، ما يستغرق عادة وقتاً طويلاً لرصده وظهور آثاره.
وبناءً على تنوع هذه العوامل العامة وتداخلها تحديداً في حالة احتساب النتائج بطريقة النقاط، يُمكن لبعض الحروب أن تنتهي وتبقى فضفاضة من حيث النتائج المُعترف بها، أو تستمر عُرضة للسجال بشأن جدواها الختامية، أو غامضة للغاية إلى حين ظهور بصمات ومفاعيل في مسار أحداث لاحقة للدول والجماعات المعنية. وهذا كلّه يرتبط أيضاً بمدى توافر ميزة العمق، مثل قدرة الأمّة أو الجماعة المعنية على التحمّل، وكذلك - مرة ثانية - بقيمها المرجعية الذاتية التي تكمن في الثقافات المُؤثّرة فيها وفي الموروث السائد - العميق، لا سيما المعتقدات الخاصة.
وتتناول العناصر المؤثّرة المتصلة بتلك القيم النظرة إلى كلٍ من القوّة والحق والعدل والمجد، وكذلك مكانة المعنويات و"التضحيات" والقدرة على توظيفها سياسياً ومعنوياً. ولا يخفى طبعاً في كل ذلك تأثير المعتقدات الدينية والأيديولوجية الخاصة وغيرها.
ولأنّ الحروب تهدّد الوجود أحياناً، فإنّ التضحيات تتّخذ صفة الضرورة، ويبلغ بعضُها مرتبة "البطولات" التي تكتسب مكانة تطغى على قياس العناصر والقيم الأخرى، بغض النظر عن النتائج المباشرة أو الملموسة، ويحدث أن تتقدّم مكانة كهذه على السرد "الموضوعي" أو "الحسابي" في قياس الانتصار أو الانكسار، وتصبح محوريةً في الموروث بطريقة قد تطغى على التقييم الشعبي العام.
وإذا كان منطقياً أن يحفل الموروث العام بحكايات وسرديات عن بطولات وأبطال ذوي دور استثنائي (وحتى أسطوري أحياناً) حققوا انتصارات، لكنّه يزخر في الوقت نفسه بقصص (تخليد) أبطال وقادة تكبّدوا (وتسبّبوا أحياناً) بهزائم عسكرية قاتلة في نهاية حياتهم أو مسيرتهم العسكرية أو السياسية، بطريقة لا تؤثر على علو شأنهم وسحرهم في نظر الجمهور لدرجة تؤدي إلى غفلة الوعي العام عن أسباب بلوغ "مرتبة البطولة" رغم تكبد الهزائم والفكرة، وما يتصل به ذلك من شروط الربح والانتصار. وتسترجع هذه المقالة من التاريخ الحديث بعضاً من هذه الحالات.
"غيفارا" مثالاً
ومن الأمثلة على ذلك الرمز الثوري تشي غيفارا الذي تحوّل ولا يزال إلى حد كبير، أيقونة نضالية حول العالم. فرغم الهزيمة العسكرية المريرة التي تعرض لها مع رفاق له في آخر حملات مناصرته للثورة البوليفية في جنوب أميركا في ستينات القرن الماضي (انتهى الأمر بالقبض عليه وإعدامه في ظروف انتقامية ومُهينة)، فقد تحوّل "تشي" إلى ملهم حقيقي ورمز ثوري عابر للقارات والأوطان والأفكار، ولا يزال صدى تضحياته وأقواله (والملصقات عنه) يتردّد بين ملايين الشباب في العصر الراهن.
وفي التاريخ الحديث نسبياً لأوروبا والعالم، يبرز كذلك التمجيد المستمر بالإمبراطور الفرنسي - الأوروبي نابليون بونابرت رغم أنه انتهى منفياً إلى جزيرة القديسة هيلانة، المستعمرة البريطانية آنذاك، حيث أمضى سنواته الأخيرة بعد استسلامه في آخر معاركه.
وفي عالمنا العربي كذلك يُحيط التاريخ المدوّن كثيراً من الأسماء بمعاني البطولة وقيمها رغم الفاجعة التي أصابتها في نهاية المطاف. ومن هؤلاء مثلاً الأمير اللبناني فخر الدين المعني الثاني، الذي يُعتبر برأي كثيرين "مؤسس لبنان الكبير" و"أعظم أمراء لبنان" في القرنين 16 و17، إلا أن نهايته كانت مريرة للغاية بعدما كثرت حوله مؤامرات خصومه المحليين وبعض الولاة العثمانيين وتمكنت حملة عسكرية واسعة من القبض عليه أسيراً في عام 1635 فتم نفيه لسنوات وإرساله إلى إسطنبول حيث أعدم لاحقاً.
وتبرز في التاريخ الحديث أيضاً معركة ميسلون، قرب دمشق، في عام 1920 والتضحيات الاستثنائية التي بذلها المئات من السوريين الجنود والمتطوعين يقودهم "وزير الحربية" في الحكومة العربية الأولى يوسف العظمة، وذلك رفضاً للانصياع لأوامر الاحتلال الفرنسي القاضية بتسليم دمشق وتمسكاً ببقاء الجيش العربي المؤسَّس حديثاً، ودفاعاً عن الحكومة العربية الأولى، حيث واجه هؤلاء الأبطال حملة فرنسية جرارة مدعومة بالطائرات والدبابات، وضحوا بحياتهم "ليس أملاً بالنصر بل تعبيراً عن حق الأمة العربية بحريتها واستقلالها ورفضها الخضوع لاستعمار جديد" كما تذكر العديد من المصادر.
وأدت نكبة فلسطين والعرب في أربعينات القرن الماضي إلى تفاعلات "بطولية" سريعة ضد السلطات التي اتُّهمت بالتهاون والخذلان والتسبّب بتلك الهزيمة المريرة التي لا نزال – وسنبقى حتى إشعار آخر – نعاني آثارها المدمّرة، فقد تحوّلت النكبة سبباً رئيسياً في تشكّل تنظيمات سرية داخل الجيوش العربية "الكبرى" تولّت تباعاً إطاحة أنظمتها، بدءاً من أول انقلاب بعض الضباط بعد استقلال سوريا في آذار (مارس) 1949 ومروراً بـ"تنظيم الضباط الأحرار" وثورة تموز (يوليو) 1952 على الحكم الملكي في مصر، ووصولاً (وليس آخراً) إلى "تنظيم الضباط الوطنيين" بزعامة عبد السلام عارف وعبد الكريم قاسم على الحكم الملكي في العراق في تموز 1958.
كانت تلك التغيّرات "الجذرية" على مستوى عقيدة تلك الجيوش والحكام الجدد، بداية لظهور كثير من النجوم "الثوريين" من ضباط اكتسبوا سمة "أبطال" لكنهم لم يمنعوا انهزام جيوشهم الساحق أمام العدو، فيما عُرف بنكسة حزيران (يونيو) 1967، إذ استباحت إسرائيل خلال ستة أيام أجواء مصر وسوريا ومطاراتهما وجنودهما، (ومعهما الأردن)، واحتلت أراضي إضافية تُقدّر بنحو 68 ألف كلم2، أي أكثر من ثلاثة أضعاف مساحتها عشية بدء الحرب (نحو 20 كلم2).
أبطال وهزائم .. والمراجعة
يمكن العثور في التاريخ القديم والحديث على أمثلة كثيرة تؤكد أن التضحيات لا تصنع دائماً بطولات، ولا تستطيع دائماً أن تمنع الهزائم، ويمكن العثور أكثر على أمثلة تُبيّن أن الأبطال بدورهم لا يصنعون دائماً انتصارات، وبخاصة عند إهمال الشروط المتكاملة لتحقيقها.
وتظهر حالات كثيرة أن الاعتداد بالنفس والمبالغة في الحماسة والعاطفة قد تؤدّيان أحياناً كثيرة إلى نتائج عكسية، وربما كارثية. كما أن التاريخ المُتداول عن الأبطال أنفسهم لا يتنازل عن شروط "موضوعية" لازمة للاعتراف بالبطولة ونيل المجد، الفردي والجماعي، وهي شروط يبدو أن الكثيرين يفضلّون اختصارها أو القفز فوقها، بمن فيهم مستويات "فكرية" وثقافية كان مطلوباً منها إيلاء هذا الموضوع الوجودي اهتماماً دراسياً ومنهجياً متناسباً مع أهميته في منطقة تكثر فيها الحروب والأزمات الساخنة.
ومن تلك الشروط مثلاً التي يُبيّنها الاقتراب أكثر من سيِر هؤلاء أنّ الأبطال الذين أُصيبوا في نهاية المطاف بهزائم عسكرية وتم تكريس أسمائهم في "الموروث" التاريخي والمُتخيّل، يستند في جميع الحالات أعلاه إلى توافر الثقة وإلى سجلٍ من تضحيات مميّزة سابقة، وأحياناً شخصية، وإلى مواقف استثنائيل و"شروط موضوعية".
فقد استند تمجيد معركة ميسلون وشهدائها، ولا سيما البطل يوسف العظمة إلى كونه "أول وزير حربية" عربي يتقدّم "كل" صفوف مقاتلية ليستشهد جهاراً "بملء إرادته" في مواجهة غير متكافئة، وهو الذي كان يتمتع أصلاً برصيد من مسؤوليات ومناصب عسكرية عليا لم تحل بينه وبين جرأة اتخاذ مواقف سياسية "ثورية" تمثّلت برفضه وتمرّده على الحاكم العربي آنذاك (الملك فيصل الأول) الذي استجاب لشروط فرنسا الاستعمارية.
أي أن خلود الأبطال الذين نُكبوا بهزيمة عسكرية في نهاية حياتهم لا بد من أن يستند إلى رصيد سابق من الانتصارات "الثورية"، كما في حالة "خلود" تشي غيفارا الذي لم يكن ليتمّ لولا انتصارات نوعية سابقة حقّقها أو شارك فيها، ولا سيما مساهمته في انتصار ثورة كوبا بقيادة فيديل كاسترو التي أطاحت الدكتاتور فولغينسيو باتيستا، ثم "زُهده" بالسلطة وتفضيله التفرّغ ميدانياً لدعم الثورات في أكثر من بلد ومكان بعيداً عن كوبا. كما يمكن أدراج تخليد نابليون بونابرت ضمن هذا السياق وهو الذي كان لُقّب بـ"قاهر أوروبا"، وراكم "انتصارات" في أكثر من 60 معركة من بين 70 معركة خاضها حول أوروبا والعالم..
ثمة حالات أخرى يُبيّنها التاريخ القريب أيضاً عن الذين استطاعوا استئناف حروبهم مع العدو و"سلطتهم" على الجماهير رغم إصابتهم بهزيمة مريرة وكارثية، لكن استناداً إلى رصيد من إنجازات إجمالية، ليست عسكرية حصراً، ولا تختص بقضية بعينها فقط، بطريقة تسمح لهم بتجاوز الهزيمة والعودة إلى خوض استحقاقات حرجة.
ففي حالة الرئيس المصري جمال عبد الناصر لم تمنع النكسة الصادمة التي مُني بها "شخصياً" وتكبّدتها الجيوش (والشعوب) العربية أمام إسرائيل في 1967، من "تتويجه" كأكثر الزعماء العرب شعبية في القرن 20 في حياته وفي مماته. ويمكن إدراج العديد من الأسباب، العاطفية والموضوعية التي تفسر ذلك وتفسر رفض "الجماهير" استقالته إثر إعلانه تحمّل "المسؤولية كاملة" عن تلك الهزيمة، بل ومطالبته باستئناف الحرب فوراً و"الانتقام" من إسرائيل (هو ما عُرف بحرب الاستنزاف). وتلك الأسباب لا تكمن فقط في سجل مواقف "بطولية" وجرأة نادرة في تحدي قوى عظمى، بل أيضاً في قربٍ قلّ نظيره من مصلحة الفقراء والفلاحين بفضل سياسات الإصلاح الزراعي (تمليك ملايين الفلاحين أراضي انتُزعت من كبار الملاك)، إضافة طبعاً إلى تأميم قناة السويس، ونجاحه في قيادة صد العدوان الثلاثي ( الإسرائيلي - البريطاني - الفرنسي) عام 1956 عسكرياً وشعبياً، ودعمه لثورة الجزائر وكذلك انخراطه في تأسيس مجموعة دول "عدم الانحياز" المستقلة عن المعسكرين الغربي والشرقي.
دلالات: ضرورية إنّما
يمكن أيضاً العثور على نماذج أخرى عديدة في التاريخ تؤكد أهمية الثقة الشعبية وتحقيق إنجازات حياتية لمصلحة الجماهير حتى تستطيع الأخيرة تحمّل التضحيات واستيعاب الهزيمة مهما كانت مريرة، أي أن التضحيات وحدها، مهما علا شأنها، قد لا تكفي وحدها لتحقيق بطولات وتمجيد أبطال، كما أن البطولات وحدها لا تكفي بدورها لتحقيق الانتصارات..
أي أن البطولات والمعنويات والتضحيات هي بعض العناصر الضرورية الماسة والثابتة، وبخاصة في حالة الحروب غير المتكافئة، لكن بالاستناد إلى المنطق والواقع من جهة، وإلى علوم الإدارة والتخطيط وعلم الحروب والجيوش من جهة ثانية، فإن مقتضيات المواجهة الفعّالة والانتصار تتطلب توافر كل أو أغلب العناصر والمكوّنات المؤثرة في النتائج، مع إعطاء كل عنصر منها قيمته الموضوعية، أي عدم التقليل من شأن شروط المواجهة الأخرى، بما في ذلك مراعاة قدرة البيئة الشعبية والمدنية على تحمّل الخسائر الباهظة. ومنها أيضاً تجنّب الاستخفاف بالعدو لدرجة تضخيم خسائره وإلا سيعتقد الناس والرأي العام أنّ الانتصار صار واقعاً مُكتسباً ولا حاجة بالتالي لمزيد من التضحيات، ما قد يسبب الاسترخاء والاطمئنان لقرب تحقيق النصر، الأمر الذي يسبب نتائج عكسية وهزائم صادمة، مثلما حصل في كثير من المعارك والحروب في تاريخنا المعاصر. هذا الكثير الذي يفرض علينا، عقلياً، مزيداً من نشر المعرفة في كيفية تقييم الحروب ونتائجها ومزيداً من الوعي، العام والخاص، النظري والتطبيقي، في شروط تحقيق النصر وكيفية تقليل الهزائم والخسائر، وذلك موضوع آخر للبحث والدراسة.