لا تزال قضية أصالة وتجديد "الفكر الديني" تفرض نفسها على الأحداث في الداخل القاهري، في ظل حالة من التلاسن بين فريقين يرى كل منهما أحقيته في الهيمنة والاستحواذ على "النص الديني"، وضرورة اخضاعه لتأويلاتهما ومنطلقاتهما الفكرية المنحصرة ما بين علمانية إلحادية، وأصولية متطرّفة، من دون وجود أي ردّ حقيقي أو عملي من قبل المؤسسات الدينية الرسمية المسند إليها مهمّة استنهاض الماضي بتراثه لخدمة الواقع المتغيّر ومستجداته.
الواقع العملي يضعنا أمام حالة من الصراع بين أطراف متنازعة على تركة "التراث الديني" وتدخّلاتها في تحريفه وتأويله، بما يتناسب مع معتقداتهم، من دون النظر لمراعاة المصلحة العامة، ولا كذلك للفائدة الحقيقية التي ستعود على الأمة العربية من خلال إعادة مراجعة النصوص الدينية، على ضوء القواعد الكلية والمبادئ العامة الحاكمة للشريعة الإسلامية.
تقع أزمة تجديد "الفكر الديني"، بين اتجاهين، أحدهما يتفق مع مفاهيم الرؤية الغربية، ويرى بتاريخية "النص الديني"، واستنباط المعاني القرآنية وفق التجربة التاريخية، وعلى ضوء المعطيات المعاصرة، إذ أنّ التفسيرات الموروثة يجب إخضاعها للنقد باعتبارها قراءة خاصة بزمانها، في إطار مرجعية مدنية لا دينية للدولة وشؤونها السياسية والتشريعية.
والاتجاه الآخر يتبلور في الثورة على قيود وجمود العمامة الأزهرية، ويرى أنّ القرآن زاخر بمعاني التجديد والحرّية والعقل والعدالة واحترام الآخر، مع ضرورة الفصل بين "الدين" و"الفكر الديني"، حيث الأول مقدّس إلهي لا يُمسّ، بينما الثاني بشري يخطئ ويصيب ويتغيّر بتغيّر العصور والحاجات الإنسانية، وأنّ تجديد "الفقه الديني" وأصوله ينطلق من مرجعية القرآن وحده، مع ضبط الحديث والسّنة بمعايير القرآن الكريم.
على هامش الاتجاهين نجد فريقاً ثالثاً، استغلّ قضية تجديد "الفكر الديني" كوسيلة للاسترزاق والعبث بأصول الإسلام وثوابته، ويتخذ من الإلحاد طريقاً في تحقيق مآربه، أو ما يُعرف بـ"مرتزقة التنوير"، أو "العلمانية المأجورة"، التي تأكل على كل الموائد ولا يعنيها في النهاية سوى منفعتها الشخصية، وتتذرع بإخضاع "النص الديني" لمجال التجربة الفلسفية، رغم أنّهم أبعد في حقيقتهم عن مرتكزات تيارات"العقلانية"، أو "الإنسانية" الإسلامية.
الثوابت والأصول العقائدية لـ"النص الديني" تحكمها الإرادة الإلهية في مجملها، ومن ثم لا تقع تفسيراتها وتحليلاتها تحت سلطة المناهج العقلية والفلسفية، في حين تخضع أحكامه التفصيلية وقواعده الشرعية للاستنباط وفق المتغيّر والمستحدث، بما يسهم في مرونة الشريعة الإسلامية في مختلف البيئات الزمنية والمكانية.
لا بدّ من أن تتجاوز قضية تجديد "الفكر الديني"، مفردات التطرّف وتأويلات الجماعات الأصولية، والانطلاق نحو تأسيس وصياغة "خطاب ديني"، يعيد تأويل موقف الشريعة من قضايا عديدة، وفق رؤية فكرية عقلانية تبرز الجوانب المضيئة للإسلام، وربطه كذلك بمستجدات الحياة وطبيعتها وما تطرحه من رهانات للمستقبل لمواجهة المشاكل الاعتيادية، ويفتح الطريق أمام العقل المنضوي على التراث، ويعيد بناء الوجدان، وينمّي الوعي الوطني، والتأسيس لثقافة العيش المشترك في عالم متعدد الأديان والثقافات والحضارات.
عملية تطوير "الفكر الديني"، تستلزم من المؤسسة الدينية الرسمية (الأزهر الشريف)، إعادة النظر في اجتهادات السابقين ومشاريعهم ومدارسهم الفكرية، والاستفادة من مضامينها وأطروحاتها، لا سيما التي توافقت مع المتغيّرات الحدثية ووضعت تفسيراً جديداً لـ"النص الديني"، والوقوف على ما حادت فيه عن الصواب والردّ عليه، بدءاً من حسن العطار، ورفاعة الطهطاوي، وعبد الحميد بن باديس، وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وخير الدين التونسي، وشبلي شميل، والطاهر الحداد، وطه حسين، وعلي عبد الرازق، وعبد المتعال الصعيدي، والدكتور محمد النويهي، ووحيد الدين خان، ومحمود محمد طه، وحسين مروة، ومحمد عابد الجابري، ومحمد شحرور، ومحمد أركون، ونصر حامد أبو زيد، وفرج فودة، وغيرهم.
ورغم أنّ مهام تجديد "الفكر الديني" غير مقصورة في ذاتها على رجال الدين، ويجب أن تشمل مختلف القطاعات المجتمعية والفكرية، فإنّها كذلك لا يجب أن تخضع للحالة العبثية والغوغائية، إذ أنّ "الفكر الديني" في ذاته مشمول بعلوم التخصص والاختصاص سواءً الشرعية واللغوية، بعيداً من الدخول في الخلاف حول علوم الفكر والثقافة وعلوم الطبيعة، مع ضرورة الاستماع للتعليقات والاستفهامات النابعة من المجتمع، على أسس التفرقة التامة بين "الدين" و"الفكر الديني"، وبين"الإسلام"، وبين "تاريخ المسلمين"، إذ أنّ الفكر والتاريخ، لديهما القابلية للنقد والنقض، بما يتطلّب إجراء مصالحة بين "الفكر الديني"، ومتطلبات التقدّم المادي والمجتمعي.
الواقع المعايش يترجم حاجتنا إلى مراجعة قراءة "النص الديني"، وتأسيس لمدرسة فكرية معتدلة تتماشى مع روح الشريعة ومقاصدها، خارجة على عقلية التسلّط والتقليد المقدّس، مع ضرورة امتلاك الأدوات والأطر العلمية التي تساعد في عملية تطوير "الفكر الديني"، إذ إنّ الحاجة الدائمة للاجتهاد لا تعني استخدام منطق دعائي تشنيعي مع قضايا تتمّ دراستها وفقاً لـ"مناهج علمية" منذ قرون، فضلاً عن أنّ "الصراع الأيديولوجي" في النهاية ليس طريقاً للتجديد، مع ضرورة الانتقال إلى إنتاج مشروع "فكري قومي" تتشارك فيه كل المؤسسات التربوية والتعليمية والفكرية والثقافية المختلفة، وترتكز فيه على تنمية العقلية النقدية، وإعمال العقل في عملية التلاقي الفكري.
*كاتب مصري، وباحث في شؤون الجماعات الأصولية