وليد محمود عبد الناصر
جاءت الوفاة المفاجئة للرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي لتطرح الكثير من التساؤلات حول دلالات غيابه عن المشهد السياسي الإيراني، ومدى تأثير ذلك، سواء على الأوضاع الداخلية في إيران أم على السياسة الخارجية الإيرانية، وما إذا كان غيابه سيؤدي إلى أي متغيرات حقيقية أو رئيسية في توجهات الحكم الإيراني تجاه القضايا الأساسية المطروحة على الصعد المحلية والإقليمية والدولية.
والرئيس الإيراني الراحل كان الرئيس الثامن في تاريخ الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وقبل فوزه بالولاية الرئاسية الأولى له في انتخابات 2021، سبق له أن تلقى الهزيمة أمام الرئيس السابق حسن روحاني في انتخابات 2017 الرئاسية، والتي كانت الولاية الثانية للرئيس روحاني الذي كان معروفاً بتوجهاته الإصلاحية في إطار النخبة الحاكمة في إيران.
وبالتأكيد، فإن منصب رئيس الجمهورية في النظام السياسي الإيراني، طبقاً لدستور عام 1979، والتعديلات التي طرأت عليه لاحقاً، ليس من الناحية الفعلية المنصب الأقوى والأهم والأكثر تأثيراً في إيران، فهو يعلوه منصب "المرشد" الذي يتولاه حالياً السيد علي خامنئي، والذي منحه الدستور سلطات واسعة منذ تأسيس النظام السياسي الإيراني وتولي آية الله الخميني منصب أول "مرشد". بل إن الخميني كان قد أصدر في عام 1981 قراراً بعزل أول رئيس للجمهورية بعد ثورة شباط (فبراير) 1979 وهو الدكتور أبو الحسن بني صدر بعد صدام الأخير آنذاك مع عدد من رجال الدين المقربين من الخميني.
وبالتالي، وفي ضوء هذه الحقيقة لهيكلية السلطة في النظام السياسي الإيراني، فإن من غير المتوقع أن تحدث أي تغييرات جوهرية في التوجهات الإيرانية، على الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الداخلية والخارجية على حد سواء.
وهناك عامل آخر يضيف إلى صدقية ذلك التوقع وهو أن الرئيس الراحل كان من التيار المحافظ داخل صفوف النخبة الحاكمة في طهران، وبالتالي فهو ينتمي إلى المعسكر والخط نفسيهما اللذين يقودهما المرشد خامنئي، ومن ثم فإنه كان هناك تناغم في التوجهات والسياسات بين المرشد والرئيس. وباعتبار أن المرشد مستمر في موقعه، فإن من المتوقع ألا تتغير التوجهات بأي درجة رئيسية في المستقبل القريب.
وكما كان الرئيس الإيراني الراحل على صلة قوية ويحظى بدعم كبير من الحرس الثوري الإيراني (الباسداران)، فإن النائب الأول للرئيس والذي تم تعيينه قائماً بأعمال رئيس الجمهورية، الدكتور محمد مخبر، هو أيضاً على صلة وثيقة بالحرس الثوري الإيراني، وكذلك من المتوقع أن يكون للحرس الثوري دور في دعم الرئيس القادم من خلال تحديد أي من المرشحين، سواء واحد أو أكثر، لمنصب الرئاسة الإيرانية سوف يقوم الحرس الثوري بدعمه.
إلا أن أهمية وجود الرئيس الإيراني الراحل في هذه الفترة كانت لها دلالات مستقبلية مهمة ومؤثرة في المشهد السياسي الإيراني وصوغ ملامح مرحلة جديدة من حياة النظام الإيراني الحاكم، وأعني هنا أنه كان من المتوقع أن تجرى قريباً مشاورات للاتفاق على ترتيبات اختيار "المرشد" الجديد، إذ إن المرشد الحالي خامنئي يبلغ من العمر نحو 85 عاماً، وبالتالي، ومع التراجع الطبيعي في الحالة الصحية العامة له مع تقدم السن، فإن تلك الترتيبات الخاصة باختيار خليفته كان يبرز فيها بقوة اسم إبراهيم رئيسي قبل وفاته باعتباره أحد التلاميذ والأتباع المخلصين لخامنئي والمصاحبين له منذ سنوات عديدة، من جهة، وباعتباره ينتمي إلى التيار المحافظ نفسه الذي ينتمي إليه خامنئي في صفوف رجال الدين، من جهة أخرى.
وتأخذنا المسألة الأخيرة إلى مسألة أخرى قد تبدو أقل أهمية بل ويعتبرها البعض مسألة شكلية أكثر منها موضوعية، إلا أن لها دلالتها الرمزية المهمة في مسيرة إيران ما بعد انتصار الثورة في شباط (فبراير) 1979، وهي التساؤل عما إذا كان الرئيس القادم لإيران سيكون أيضاً من رجال الدين أم سيكون من خارج صفوفهم، وإن التزم بالطبع بما يسمى "خط الإمام".
فعلينا أن نتذكر أن أول رئيسين للجمهورية الإسلامية جاءا من خارج صفوف رجال الدين وهما الدكتور أبو الحسن بني صدر الذي كان أحد مستشاري الخميني في منفاه في فرنسا، ثم محمد علي رجائي الذي كان أحد رموز الحزب الجمهوري الإسلامي الذي كان بمثابة الحزب الرئيسي للتابعين لتيار "خط الإمام" خلال حياة الخميني. وعقب مصرع رجائي عقب فترة وجيزة من انتخابه، الذي تلى عزل بني صدر، سعى العديد من رجال الدين الإيرانيين الملتفين حول الخميني آنذاك إلى إقناعه بأن يكون الرئيس التالي من صفوف رجال الدين باعتبارهم الأكثر ولاءً وأيضاً الأكثر "علماً" من منظور هؤلاء تطبيقاً للمقولة التي أطلقها الخميني آنذاك بأن "العلماء ورثة الأنبياء".
وكان من نتيجة ذلك أن الرئيس الثالث للجمهورية جاء من صفوف رجال الدين وهو المرشد الحالي علي خامنئي، والذي تولى الرئاسة لفترتين، تلاه رئيسان كانا أيضاً من صفوف رجال الدين رغم اختلاف التوجهات والسياسات في ما بينهما، وهما الراحل علي أكبر هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي، وكل منهما أيضاً أمضى فترتي ولاية رئاسية، وجاء منذ ذلك الحين رئيس واحد فقط من خارج صفوف رجال الدين هو محمود أحمدي نجاد، الذي أمضى بدوره فترتي ولاية رئاسية ليعقبه في منصب الرئاسة، من جديد، رجلا دين آخران هما الرئيس السابق حسن روحاني ثم الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي.
وبالتالي، فأحد الأسئلة التي تتصدر المشهد السياسي الإيراني حالياً هو: هل سيكون الرئيس القادم من رجال الدين أم من خارج صفوفهم؟
وكما ذكرنا في بداية هذه المقالة، فمنصب رئيس الجمهورية ليس هو الأكثر قوة وتأثيراً في النظام السياسي الإيراني الحالي، ورغم ذلك، فإن السؤال يبقى مطروحاً بإلحاح نظراً إلى أن البعض، بمن في ذلك من هم ضمن القاعدة المؤيدة للنظام الحالي في طهران، كانوا يرون ألا يحتكر رجال الدين كل المناصب العليا في الهيكل السياسي للدولة، وأن يتركوا بعض تلك المناصب لمن هم خارج صفوف المؤسسة الدينية، بما يمنح الأمل لشخصيات مؤيدة للنظام من خارج المؤسسة الدينية في الوصول إلى تولي هذا المنصب، من جهة، وفي إظهار أن هناك حالة عدم احتكار من جانب رجال الدين للمناصب الرفيعة في الدولة، سواء أمام الداخل الإيراني أم أمام الخارج، من جهة أخرى.