السودان على موعد مع كارثة هائلة، في ظل انعدام الأمن والأوضاع المرعبة في أنحاء البلاد، يتصاعد القتال بين قوات الجيش بقيادة البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة "حميدتي"، النتيجة: 15 ألف قتيل، 9 ملايين لاجئ ونازح، و25 مليون محاصر بالجوع والرصاص. مأساة أكبر تلوح في مدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور حيث مليون مدني بين رحى الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، بينما لا يكترث المجتمع الدولي بما يجري في أرض النيلين، "ودن من طين وودن من عجين"، السودان هو "الجحيم الأرضي" حالياً!
حفل شواء
محنة الفاشر المستعرة حالياً لن تتوقف عندها؛ الفاشر عمق استراتيجي لإقليم دارفور المتاخم لولايتي الشمالية وكردفان، تربط غرب السودان بشريط دولي حدودي ملتهب من تشاد غرباً وليبيا ومصر شمالاً، إلى جنوب السودان وأفريقيا الوسطى جنوباً، أيضاً ترتبط قبائل إقليم دارفور بالقبائل في دول الجوار، وغالبيتها بلدان تعاني اضطرابات. يعمل كل من الفريقين المتصارعين على فرض سيطرته على الفاشر؛ لو نجح الجيش السوداني في ذلك فإنه يستعيد مدن شمال دارفور والولايات الأربع الأخرى بالإقليم، ويقطع مصدر الإمداد البشري واللوجستي للدعم السريع، مع تأمين ولايتي الشمالية ونهر النيل. أما إذا سيطر "الدعم السريع" على الفاشر فسيكون بمقدوره تأمين الإمداد بسهولة أكبر والدفع بتعزيزات إلى خارج الإقليم، وبالتالي حسم السيطرة على كردفان والشمالية ونهر النيل وغرب السودان كله، وربما تنفتح الطريق لإحكام السيطرة على العاصمة الخرطوم.
إن الفاشر هي خط الدفاع الغربي لولايات السودان، التعقيدات الإثنية والأمنية المحلية والإقليمية المرتبطة بها، وحجم القتال والمجازر والدماء والنزوح، وما قد يترتب عليها من نتائج شديدة التأثير والخطورة قد تجعل من "حفل الشواء" الدائر في الفاشر "مسماراً في نعش السودان" بشكله الحالي.
بالتزامن مع ذلك، شددت كليمانتين نكويتا منسقة الأمم المتحدة بالسودان للشؤون الإنسانية الأربعاء الماضي، على أنه برغم مرور أكثر من عام على بدء الحرب، فإن الشعب السوداني "عالق في جحيم" العنف الوحشي: المجاعة تتفاقم، المرض ينهش، القتال يتوحش، ولا مخرج في الأفق، لم يتبق سوى ستة أسابيع، ويصبح الغذاء نادراً، 4 ملايين شخص على حافة الموت جوعاً... بإيجاز يتجه الشعب السوداني إلى "عاصفة كاملة" تزداد فتكاً كل يوم؛ قد تؤدي إلى تقسيم البلاد؛ استجابة لدعوات الانفصال؛ بعد ما أحدثته الحرب من شروخ بين مكونات المجتمع، بقبائله وتفرعاته الإثنية، وانهيار المؤسسات الهشة؛ ما يقدم دليلاً إلى أن السودان بات "دولة فاشلة".
سرديات بديلة
الكارثة السودانية بركان يقذف الحمم فوق رؤوس الجميع؛ بالنظر لموقع السودان الجيوسياسي البالغ الأهمية؛ يتطاير شررها إقليمياً وعالمياً، تهدد أمن البحر الأحمر أهم رابط بحري لأوروبا مع آسيا والمحيط الهادئ، وبالتدريج يتحول السودان مرتعاً خصباً للمجموعات الإرهابية، والإتجار بالبشر والأسلحة والمحظورات، وسيطرة كل ما هو مناف للإنسانية، في منطقة الساحل وشمال أفريقيا وجنوب الصحراء الكبرى.
وسط هذا الجحيم المقيم، يتساءل السودانيون عن موعد قريب لتوقف الحرب اللعينة؛ كي يعودوا إلى ديارهم التي أكرهوا على مغادرتها، توحشاً وتقتيلاً ودماراً، ولا سيما أنه ليس باستطاعة الطرفين المتقاتلين وقف إطلاق النار، إلا بضغوط خارجية ثقيلة ومخلصة، كما لا يمكنهما معاً تحديد مصير السودان، بيد أن الجهود الإقليمية والدولية، فشلت حتى الآن، في وضع حد للجحيم السوداني.
أولى خطوات علاج أي مشكلة هي فهمها فهماً صحيحاً؛ للوصول إلى التشخيص السليم والحل المناسب؛ تظل الحقائق أولى ضحايا الحروب. يشيع من يقفون وراء الحرب سرديات بديلة، كاذبة أو خادعة للواقع، تغطية على كوارثها الإنسانية. بدأت الحرب السودانية صراعاً سياسياً على السلطة، ثم صارت حرباً أهلية، يصعب على أي جهد محلي وضع حد لها، تصر بعض الأطراف الداخلية، بمساندة إثيوبيا وآخرين، على الإبقاء على قوات الدعم السريع وتقويتها؛ لتكون جيشاً موازياً للقوات المسلحة السودانية ومستقلة عنها، إمبراطورية اقتصادية هائلة، مع دعم إقليمي ضخم للاستيلاء على الحكم بالقوة، برغم الجرائم ضد الإنسانية والتطهير العرقي والإبادة الجماعية، في غرب دارفور والتهجير القسري لملايين السودانيين في الخرطوم وولايات الجزيرة ودارفور والنيل الأبيض وكردفان. إن وضع ميليشيا الدعم السريع على قدم المساواة مع الجيش السوداني، والحيلولة دون احتكار الجيش السلاح؛ لحماية الحكم المدني الديموقراطي، ينبئ بأسوأ الاحتمالات في تاريخ السودان؛ البلاد عرضة للتقسيم والتبخر من الوجود.
نافذة أمل
من ثمّ ينبغي وقف الأعمال القتالية، والسماح بنفاذ المساعدات الإنسانية لمن يحتاجونها. المسؤولية الكبرى في وقف الحرب المدمرة تقع على عاتق القوى المدنية السودانية، عبر تصميم وقيادة عملية سياسية، جوهرها صياغة رؤية لفترة انتقالية تجيب عن أسئلة ضرورية حول نظام الحكم ومستقبل قيادتي الجيش السوداني و"الدعم السريع"، وحصر السلاح بيد الدولة لا الميليشيات، والمساءلة القانونية بالنسبة لمرتكبي جرائم الحرب، والمصالحة الوطنية، كما حدث في جنوب أفريقيا من قبل.
القلق هنا ينبع من مصدرين، الأول: خيبة الأمل في القوى المدنية السودانية التي تمارس الاستقطاب السياسي ورفض الآخر وتتغافل عن واقع البلاد المشبع بالدمار وسفك الدماء والانتهاكات الفظيعة، وكأنها غير معنية باحتمال تمزق البلاد، الثاني: هو التلكؤ في التئام منبر جدة وعدم تنفيذ ما تم الاتفاق عليه من قرارات مبادرات المؤسسات الإقليمية والدولية، بما في ذلك قرارات مجلس الأمن بوقف إطلاق النار خلال رمضان الماضي، كلها لم تنفذ؛ لغياب الإرادة والجدية عند طرفي القتال، وداعميهما، وأتى العدوان الإسرائيلي الوحشي على غزة ليأخذ الانتباه العالمي عن الكارثة في السودان "المنسي" التي باتت أشد وطأة وأبشع حالاً.
إن عدم تمكن أي من أطراف القتال من فرض إرادته، يوفر نافذة أمل ضيقة، للانتقال إلى التفاوض والبحث عن "حلول سلمية" للأزمة وإسكات البنادق. قبل ذلك يجب على جميع اللاعبين بالداخل والخارج مواجهة دعاوى التهييج والحشد والتقسيم الداخلية والأطماع الخارجية في ثروات السودان، للتصدي للأزمة الإنسانية والتمهيد للسلام. النار في السودان لن تبقى داخله، بل قد تحرق الإقليم برمّته، لذا لزم التنويه!