علي الصراف
إسرائيل ترتكب جرائم حرب. ثقافتها العنصرية وأيديولوجيات الأساطير، تجعل كل خياراتها مناطة بالقدرة على ارتكاب جرائم حرب. 76 عاماً من عمر إسرائيل، كانت في الواقع 27683 يوماً من أعمال القتل. ما مر يوم من هذه الأيام من دون أن يُقتل فلسطيني في مكان ما. وظلت إسرائيل لا تعرف لنفسها حدوداً. تتوسع أو تتقلص بحسب عدد ما لديها من طائرات ودبابات وصواريخ.
مشاعر الخوف والرعب من "التهديد الوجودي" هي ما يهيمن على ردود الفعل الإسرائيلية تجاه أي خطر. بل تجاه أبسط المساءلات. تقدم لنفسها زعماً، ولا تسمح لأحد بمقارنته مع أي وقائع. تعيش في صورتها عن نفسها خارج الواقع. وتريد أن تفرض على الآخرين ما تراه في المرآة، بعد كل الماكياج عن "الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط" والجيش "الأخلاقي" الذي ظل يقتل أطفالاً ونساءً من دير ياسين، إلى صبرا وشاتيلا، قبل أن يصل إلى غزة.
سجلات الماضي لم تختف. غزة طفحت الكيل. وللمرة الأولى صار مطلوباً من إسرائيل، أو من بعض قادتها، أن يكونوا عُرضة لمحاكمات بارتكاب جرائم حرب.
إنه منعطف خطير بالنسبة إلى من أمضى 76 عاماً وهو يفلت من العقاب، ويُملي صورته "الأخلاقية" على الذين يكتفون من الواقع بالنظر إلى الماكياج.
الاعتقاد السائد في إسرائيل يصف المنعطف بأنه "كارثة".
السبب الذي يقف وراء هذا الاعتقاد يكمن في السؤال: وماذا نفعل الآن بعدما ساح الماكياج؟ كيف أصبحنا لا نستطيع أن نمارس لـ76 عاماً مقبلة، ما فعلناه قبلها، من دون عقاب ولا مساءلات؟
مر كل ذلك، ولم تتمكن إسرائيل من القضاء على الشعب الفلسطيني. ورغم كل أعمال الاستيطان والاستيلاء على الأراضي، هناك اليوم 7 ملايين فلسطيني يتشبثون بأرضهم، في مقابل نحو 7 ملايين مهاجر إلى إسرائيل. المتغير الديموغرافي قد يعني شيئاً. إلا أن هذا المتغير ينطوي على علامة فارقة، هي أن الجانب المتفوق عسكرياً منه يرتكب جرائم حرب، بينما الجانب الآخر يعاند كما تعاند العين المخرز. الأول غني. والآخر فقير. الأول يعيش في متسع من الرفاهية. والآخر يعيش في متسع من القهر. الأول شوارعه فسيحة وجسورها موصولة من تل أبيب إلى نيويورك. الثاني شوارعه ضيقة. والأول، لديه دول كبرى، قوية وغنية تحميه وتغدق عليه. والثاني، لا يوفر له جواره أكثر مما عنده أصلاً.
العصبية، في أولها، قرابة ونسب. ولكنها أبعد الآن من نسب. الفقر نسب. والظلم نسب. ووفقاً للنظرية الخلدونية، فإن العصبية الناشئة عن الفقر والقهر، أقوى من العصبية الناشئة عن الرفاهية والغنى. كارل ماركس، وضع المعادلة في إطار آخر، قائلاً: "البروليتاريا لا تخسر شيئاً في الثورة سوى أغلالها". الفلسطيني، بهذا المعنى، لا يخسر شيئاً في المقاومة، سوى عبوديته.
وها أنت تراهم مشردين، جائعين، ويُدفن أطفالهم تحت الأنقاض، ويظلون على عناد.
بحسب مقاييسك: إنهم مجانين. ولكن بحسب مقاييس ابن خلدون، فإنك أنت المجنون.
كل المستعمرين كانوا أقوياء و"متحضرين". يأكلون "الغاتو" إذا استغنوا عن الخبز. ولكنهم رحلوا تاركين الأرض لمن لا يجد خبزاً.
لو كان أتيح لإسرائيل أن تفهم ابن خلدون، لكانت دفعت غزة إلى أقصى مراتب الغنى والرفاهية. وحالما ترى أول ثلاث طالبات يرتدين التنانير القصيرة، فستعرف أنها هزمت "حركة حماس"، أي هزمت أيديولوجيا الفقر والقهر فيها. ولكن بما أن قادة إسرائيل "حمير"، بحسب وصف بعض المتظاهرين الإسرائيليين، فقد هدموا كل المدارس والجامعات في غزة. والطالبات الثلاث ذوات التنانير القصيرة لن يظهرن ولا حتى بعد 130 عاماً (80 عاماً منها لإعادة إعمار ما تهدم).
الذين هم جزء من بيئة الرفاهية والغنى والاستعمار، يحسن أن يحسبوا الحساب لما حسبه أقرانهم القدامى، فرحلوا. قال الواقع: غريمك لا يملك ثمن بطاقة السفر. لا يعرف إلى أين يذهب. يقول: "وطني ليس حقيبة، وأنا لست مسافر". أما أنت، فقد جئت بحقيبة، وتملك ثمن التذاكر.
والمشكلة في جرائم الحرب، أنها لا تسقط بالتقادم. مرتكبوها يظلون قيد الملاحقة، ولو بعد حين. إسرائيل التي لاحقت آخر جندي في جيوش النازية وحاكمته، علّمت الفلسطينيين كيف يمكن أن يلاحقوا آخر جندي في "جيش الدفاع الإسرائيلي".
خلف الخلدونيات رياضيات من نوع ما.
يمكن أن تفترض أنك في عمر القادر على قتل الأطفال عندما تُستدعى إلى الخدمة الإلزامية. وبعد أن تتدرب على قتل طفلين أو ثلاثة، سوف يشتد عودك لتصبح قادراً على نسف مبنى سكني كامل. ستكون قد بلغت الثلاثين من عمرك، ولديك في سجلك الجنائي عدد من القتلى. بعضهم قلت إنهم يحملون سكيناً ليهاجموك، فقتلتهم، ووضعت السكين التي في جيبك بيد القتيل. أشياء من هذا القبيل تحدث كل يوم. والسجل يكبر.
لكي تتمكن العصبية الفلسطينية من أن تتغلب على العصبية الصهيونية، فإنها قد تحتاج، لنقل، إلى نحو 20 عاماً أخرى. ابن الثلاثين في "جيش الدفاع" سوف يصبح ابن الخمسين عندما يحدث ذلك. وهذا منتصف عمر خطير. الإنسان في هذا العمر يبحث عن الاستقرار والراحة. ليس من الصحيح أن يجد نفسه مُلاحقاً بجرائم ارتكبها قبل عشرين عاماً.
الدول القوية والغنية سوف توفر له الحماية من دون أدنى شك. هذه الحماية تعتمد على حجم ما سوف يبقى لها من القوة والغنى. منقلب المتغيرات الاقتصادية الذي نقل الصين من دولة فقيرة إلى ثاني أكبر اقتصاد في العالم في غضون 30 عاماً، قد يزداد انقلاباً، ما يعطيك 20 – 30 عاماً إضافية للنجاة. سوف تكون قد بلغت السبعين أو الثمانين في ذلك الحين. ويا للويل في حاجة ابن السبعين أو الثمانين إلى أن يسكن في منزل رحب، وحديقة يسقي مزروعاتها ويلاعب أحفاده فيها. وآخر ما قد يخطر على بال التمنيات أن يجد نفسه برفقة حارس زنزانة يعطف عليه وهو يعاني تضخم البروستات وارتفاع ضغط الدم والسكري ولا يقابل طبيباً إلا مرة كل شهر.
حسابياً، إذا كنت ابن الثلاثين اليوم، وتقتل الأطفال والنساء في غزة، فكل ما لديك من فرص النجاة والرفاهية هو خمسون عاماً. ربما تكون أقل، إذا أخذت آليات التسارع بالحسبان. ولكنك في النهاية سوف تقع بما وقع به أدولف أيخمان.
أيخمان الذي نُفذ فيه حكم الإعدام برشقه بالحجارة حتى الموت في 31 أيار (مايو) 1962، يمكن أن يكون سابقة قضائية لكل الذين ارتكبوا جرائم حرب في غزة. كان عمره 56 عاماً عندما دفع ثمن الجريمة.
إذا كنت صهيونياً تؤمن بإصحاحات بنيامين نتنياهو وإيتمار بن غفير وبتسلئيل سيموتريتش، وتدعو إلى قتل أبناء الظلام وأطفالهم ونسائهم وحتى ماشيتهم، فأنت في وضع زمني صعب. احسب، وسترى أن حبل الوقت قصير. ولكنه خيارك على أي حال.
أما إذا كنت يهودياً، وتؤمن بالوصايا العشر: لا تقتل، لا تزنِ، لا تسرق، لا تشهد بالزور على جارك.. الخ، فلا خوف عليك من هذا المصير. وفلسطين يمكن أن تكون وطنك. لا حاجة على الإطلاق لأن تفكر بالرحيل. يهود كثر من أمثالك يعتبرون أنفسهم فلسطينيين. وهذا من حقهم الطبيعي. لن تجد فلسطينياً يُعاديك، أو لا يتخذك جاراً.
فإذا كنت شاباً لم يلتحق بمعسكر من معسكرات التدريب على ارتكاب جرائم الحرب، فلك أن تحسب رياضيات ما بقي أمامك من العمر، فتقطع تذكرة ذهاب من دون عودة مع الجريمة. تترك خلفك مستنقعاً لسفك الدماء لا يجدر بمستقبلك أن يغرق فيه. كما لا يجدر أن تجد نفسك في حفرة قادك إليها "حمير" ممن تغمرهم مشاعر الخوف والرعب من "التهديد الوجودي".