في وثيقة سرية أميركية مسربة لموقع "بوليتيكو"، كشف مسؤولون بوزارة الخارجية عن اعتزام واشنطن لعب دور بارز في غزة، بعد انتهاء الحرب؛ للمساعدة في استقرار القطاع. تشير الوثيقة إلى أن الإدارة الأميركية تدرس تعيين "مسؤول أميركي" كبيرَ مستشارين لقوة "حفظ سلام"، ويعمل بشكل وثيق مع قائد القوة. بعض الخبراء رأى أن ذلك يستوحي تجربة بول بريمر في العراق، واعتبره آخرون خطوة تمهد للانتداب الأميركي على غزة أو فلسطين ما يجعل الولايات المتحدة دولة بالمنطقة العربية ترقد بجوار إسرائيل، بكل ما لذلك من مفاعيل.
بول بريمر "الغزاوي"
بحسب موقع "بوليتيكو"، فإن المناقشات الخاصة بشأن دور هذا "المستشار"، مستمرة بسرية منذ أشهر، بين البيت الأبيض والبنتاغون ووزارة الخارجية، وأنها تدل على أن إدارة بايدن تتوقع أن تظل في قلب ما يحدث بغزة لفترة طويلة عقب انتهاء الحرب.
تزامنت تلك التسريبات مع ضغوط إقليمية ودولية مكثفة على إسرائيل، لوقف النار والسماح بإدخال المساعدات الإنسانية لسكان القطاع الذين لا يجدون طعاماً أو دواء، آخر هذه الضغوط قرار "محكمة العدل الدولية" بوقف اجتياح رفح الفلسطينية، وقبله مطالبة مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية باعتقال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت؛ لارتكابهما جرائم حرب ضد أهالي غزة.
لكن كما هو متوقع، تزدري إسرائيل القانون الدولي، ترفض الانصياع لأوامر محكمة العدل الدولية أو الجنائية الدولية؛ برغم أنهما أعلى هيئتين قضائيتين عالمياً، بل واصلت مجازرها المروعة في مخيمات رفح... الغريب حقاً هو ردود الأفعال الغربية الغاضبة، الأميركية بالأساس. انبرى أركان إدارة بايدن للتنديد بقرار المحكمة الجنائية، ودعا أقطاب الكونغرس إلى فرض عقوبات على المحكمة الجنائية أو العدل الدولية؛ فلا يمكن مساواة الحليف الإسرائيلي مع العرب، ومن حق تل أبيب ارتكاب ما يحلو لها من جرائم بزعم "الدفاع عن النفس". يحار المرء في تفسير دوافع التأييد الأميركي لغطرسة ووحشية إسرائيل وانتهاكها كل القيم والقوانين، طوال 75 عاماً الماضية، ودعمها استمرار احتلال الأراضي العربية والوقوف بصلابة أمام نيل الشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة ودولته المستقلة.
فلسفة القوة
بعد أحداث 7 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، حذرت مجلة "فورين بوليسي" من أنه لا أمن لإسرائيل، ولا أمن ولا عدالة للفلسطينيين؛ عندما نترك واشنطن تدير كل شيء. وأضافت المجلة أن قادة الولايات المتحدة أظهروا مراراً أنهم يفتقرون إلى الحكمة والموضوعية، لتحقيق نتائج إيجابية، ولا حتى لأنفسهم.
قد يغيب عن أحدهم أن أميركا ضالعة في العدوان. لقي عشرات الآلاف من الشهداء والمصابين في غزة حتفهم بأسلحة أميركية زودت بها واشنطن تل أبيب، ووفرت لها مظلة حماية سياسية واقتصادية وعسكرية. بعض الآراء ترجع الدعم الأميركي (الغربي) لإسرائيل إلى الوشائج الدينية بين الصهيونية والبروتستانتية، أو لترابط المصالح الاستراتيجية بين الدولتين، أو لدور اللوبي اليهودي بالولايات المتحدة. عامل مهم آخر: إن شعبية إسرائيل في أميركا تفوق شعبية الرئيس الأميركي نفسه.
إن التأييد الأميركي لإسرائيل يثير الكراهية ضد واشنطن شرقاً وغرباً. الأخطر أن مواصلة تل أبيب جرائمها، بمباركة أميركية؛ يتسق مع روح قديمة تسري في عروق الحضارة الغربية، روح عنصرية استعلائية، جسدها الفيلسوف الفرنسي آرثر جوبينيو بقوله: إن الجنس الأبيض أو الآري لديه توافق أعظم بين مكونات القوة الجسدية والذكاء والأخلاق. من بين كل الأجناس الموجودة يظل هو الأكثر حيوية، تلك الحيوية أساس الحضارة والإبداع الإنساني - من وجهة نظره - ما يعني أن الجنس الأبيض الأرقى بين البشر، ومن حقه أن يهيمن. مثلت آراء جوبينيو ركيزة للنازية أو العنصرية الغربية تجاه بقية البشر، عنصرية لا تزال محفورة في ردود الفعل الأميركية - الغربية المؤيدة لاستخدام إسرائيل القوة ضد العرب الفلسطينيين. يذهب الفيلسوف الألماني نيتشه إلى أن الحضارة كلها من صنع أصحاب القوة الذين يمتلكون إرادة قوة، القوة هي حقيقة الحياة والعالم، الأخلاق هي اختراع الطبقة الضعيفة؛ لكي تحمي نفسها من الغزو الذي يمجده نيتشه؛ وعليه لا بأس أن تُخضع الآخرين لأوضاع مهينة بكل وحشية، مثلما تفعل أميركا وإسرائيل. ذات مرة، قال تشارلز ويلسون وزير الدفاع الأميركي، في عهد الرئيس أيزنهاور، إن "النمو الاقتصادي المثالي لا يمكن ضمانه إلا في ظل اقتصاد حرب أبدي"!
المخطط الإقليمي
كشف العدوان على غزة أزمة الحضارة الغربية، تدلف طور الاضمحلال؛ تكرس ثقافة واحدة، ثقافة النرجسية والغلبة. يركز الغرب على مصالحه وتعميم ثقافته وهويته، يرفض عملياً التنوع الإنساني، تنتج سياساته الانحلال الأخلاقي والاستقطاب الاقتصادي وسيادة الاستهلاك والتدهور البيئي وفقدان الانتماء وتشييئ الإنسان. للإنصاف ليس كل ما يأتي من الغرب شراً، ليس كتلة واحدة صماء، هناك اتجاه داخل الغرب يرفض غطرسة القوة وهيمنة رأس المال، كما شاهدنا في الجامعات الأميركية، لكن هذا يشير إلى "نقطة غليان" داخل ثقافة مأزومة؛ بسبب الجشع والهيمنة على البلدان الأخرى؛ حتى تدور في الفلك الأميركي؛ إذ تسعى الرأسمالية العالمية للربح بأي ثمن. مجتمع شره مادياً، مفلس روحياً، مجرد من القيم إنسانياً؛ ما يقدم برهاناً على القول بانحدار الحضارة الغربية، مثلما خلصت دراسات هنري آدامز وأرنولد توينبي وبول كينيدي وتشارلز موراي - ومن قبلهم هربرت ماركيوزه وتيودور أدورنو وهوركهايمر - دراسات طالبت بتعديل دفة الحضارة الغربية المعاصرة من الداخل؛ تفادياً للمصير المظلم الذي ينتظرها والعالم لو استمرت في النهج الظالم حالياً.
إن الممارسات الإسرائيلية المروعة، بدعم أميركي، ضد الفلسطينيين تضيف سنداً جديداً لإعادة النظر في توجهات الغرب والتساؤل عن مصير حضارته والعالم معه، وخصوصاً لو أفلحت الضغوط والتهديدات في فرض "انتداب أميركي" على غزة، لتصبح أميركا إحدى دول المنطقة فعلياً، بجوار إسرائيل في قلب المنطقة العربية.
من ثمّ لا يمكن استبعاد أن الحرب على غزة جزء من مخطط يجري تنفيذه على مهل؛ لتهجير الفلسطينيين وإخلاء أرضهم وتصفية قضيتهم؛ تمهيداً لإقامة محاور استراتيجية: تجارية ولوجستية وسياسية وعسكرية، بوزن اكتشاف "رأس الرجاء الصالح"، تقودها إسرائيل وترعاها أميركا، حتى لو وصل الأمر إلى "انتداب أميركي" على فلسطين، في ضربة مزدوجة لمساعي السلام العادل. أزهار الشر تتفتح في الشرق الأوسط، الذي يبدو أنه يتحول من الغليان إلى الانفجار!