حميد الكفائي
العطل من مزايا الدولة العصرية، وهي تُسنّ ليس لتذكر المناسبات الوطنية والقومية فحسب، وإنما للراحة والاستجمام والترفيه وممارسة الهوايات، الأمر الذي يخلق مجتمعاً سعيداً ومنتجاً.
أول عطلة سجلها التأريخ هي عطلة "أكيتو" أو رأس السنة في العراق في عهد الدولة البابلية، كما كشفت الألواح الطينية التي يرجع تأريخها إلى ألفي سنة قبل الميلاد. وكان عيداً أكثر منه عطلة، ومناسبة للاحتفال بيوم تساوي الليل والنهار، وتستمر الاحتفالات بالعيد اثني عشر يوماً. ثم بدأ الصينيون يحتفلون بعيد رأس السنة منذ 3500 عام، ولا يزال هذا العيد الأهم في التقويم الصيني.
وفي عهد الرومان كان النبلاء يتمتعون بعطل طويلة، ولكن لا توجد عطل رسمية. أما في العصر الحديث، فقد سُنت القوانين لتنظيم العطل، وأول مرة تعلن فيها عُطَل رسمية كانت في أميركا عام 1870، وهي أعياد رأس السنة والاستقلال والشكر. وفي بريطانيا، سُنّ أولُ قانون للعطل الرسمية عام 1871، وهو قانون "عطلة البنوك"، ولا يزال البريطانيون يطلقون على العطلة "Bank Holiday".
تأريخياً، لا توجد عطلة في الإسلام، سوى عيدي الفطر والأضحى، وهذان مناسبتان دينيتان بحت، وأوقات للعبادة والراحة بعد عناء الصيام والحج، إذ يجتمع الناس في المساجد والمجالس للمباركة والاستئناس. وحتى يوم الجمعة، لم يكن عطلة، بل هناك توقف قصير عن العمل لأداء الصلاة.
مواطنو الدول المتقدمة يستمتعون بعطل رسمية وأخرى وظيفية، بينما الدول النامية، أو الساعية للحاق بركب الأمم المتقدمة، فتسعى لتقليص عدد العطل إلى الحد الأدنى، وهذا ما تتبعه معظم دول العالم. عدد العطل الرسمية في سويسرا مثلا 3 فقط، لتنوع سكانها عرقياً ودينياً، وتوجد عطل خاصة بالكانتونات. في المكسيك توجد 4 عُطَل، منها عيد ميلاد بنيتو خواريز، أول رئيس مكسيكي منتخب من السكان الأصليين، وفي بريطانيا 8، وفي ألمانيا 9، وفي أميركا 11، ومثلها فرنسا.
اختيار العطل لا يأتي حسب أهواء فئة دينية أو مصلحة جماعة سياسية، وإنما عبر دراسة عميقة، تتقصى بعناية فائقة المنافع والمضار المحتملة، والموازنة بينها. هناك مضار اقتصادية واجتماعية لكل عطلة، وكل دولة يمكنها تقدير تلك الأضرار حسب طبيعة اقتصادها وحجمه. الدول الصناعية مثلا تتضرر من كثرة العطل، لأنها تتسبب في تعطيل الانتاج وتكبيل الشركات والمؤسسات تكاليف إضافية، وحجب المنافع التي تقدمها المؤسسات الرسمية للمواطنين.
لكن هناك منافع للعطل، خصوصاً في الدول الغنية، فهي تنشر السعادة وتوفر المزيد من وقت الفراغ للتفسح وممارسة الهوايات ولقاء الأصدقاء، وما إلى ذلك من نشاطات اجتماعية. كما تحفز النشاط والانتاج في القطاعات الاستهلاكية والترفيهية والخدمية. الدول المعتمدة على السياحة والخدمات، تستفيد من العطل، الخاصة والعامة، لأن الأعمال التجارية والترفيهية تزدهر أثناءها.
أول ما يؤخذ بنظر الاعتبار عند اختيار العطل، هو المقبولية الشعبية، فهل مناسبة العطلة وتوقيتها متفق عليهما مجتمعياً وسياسياً، أما أنها مثيرة للخلاف والخصام. المناسبات الخلافية تهمل كلياً لأنها تزعزع الوحدة الوطنية التي تأتي في قمة أولويات الدولة العصرية. في بريطانيا توجد عُطَل دينية للأقاليم، مثلاً، "يوم سان باتريك" في أيرلندا الشمالية، و"سان أندروز" في سكوتلندا. وفي عام 2011، حاول النائب ناظم الزهاوي أن يجعل من "يوم سان جورج" عطلة رسمية لإنكلترا، لكن البرلمان رفضها، إذ رأى أن الإنكليز لا يحتاجون لتأكيد هويتهم الدينية. الولزيون أيضاً رفضوا تعطيل العمل في "يوم سان ديفيد".
معظم الدول الغربية تعطل في عيد الميلاد، يومي 25 كانون الأول (ديسمبر) و26 منه، وهذه في الحقيقة عطلة نهاية السنة، لكنها قُرنت بعيد ميلاد المسيح، رغم أنه غير معلوم، فالأورثوذوكس يحتفلون به يوم 7 كانون الثاني (يناير)، بينما تشير البحوث التأريخية إلى أن المسيح ولد في شهر أيلول (سبتمبر)، ومن أجل تعظيم المنفعة، جَمَعَت العطلة بين المناسبة الدينية والاستراحة الشتوية في نهاية العام.
ويعتبر العراق أكثر بلدان العالم شغفاً بالعطل، الرسمية وغير الرسمية، حتى فاق عددها المألوف في أي بلد طبيعي، وصارت تتخذ طابعاً دينياً بعد 2003، بينما الدين لم يُقِر أي عطلة، بما فيها يوم الجمعة، والآية 9 من سورة الجمعة صريحة: "يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَوٰةِ مِن يَوۡمِ ٱلۡجُمُعَةِ فَٱسۡعَوۡاْ إِلَىٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلۡبَيۡعَۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ". فإيقاف العمل يحصل عند المناداة للصلاة. والسعي إلى ذكر الله هو في العمل، حسب تفسير الطبري.
ويؤكد علماء المسلمين وكتب التأريخ والسيرة أنه لا توجد عطلة في الإسلام مطلقاً، وأن النبي والخلفاء والأئمة وعباد الله الصالحين طوال عهود الدولة الإسلامية، بدءاً بعهد النبي الأكرم مروراً بالعهود التي تلته، من الخلفاء الراشدين حتى السلاطين العثمانيين، لم يتمتعوا بعطلة رسمية سوى عيدي الفطر والأضحى.
لم تتوقف المطالبات بإعلان عطل رسمية في العراق منذ تغيير النظام حتى الآن، وكل فترة تظهر مناسبة جديدة يطالب مبتدعوها بإعلانها عطلة رسمية، حتى صار البلد معطلاً لربع أيام السنة، وكل ذلك باسم الدين والمذهب وأهل البيت.
آخر ما توصل إليه العقل العراقي الخلَّاق هو جعل "عيد الغدير" عطلة رسمية للدولة! والغدير، حسب الرواية الشيعية، هو اليوم الذي أوصى به النبي للإمام علي بالخلافة، وهذه المسألة خلافية، وإن تبنّي الدولة لها يثير الفتنة بين المواطنين، ويجعل العراق منقسماً على نفسه، ومعزولاً عربياً وإسلامياً، ومعرَّضاً لشتى الأزمات والمشاكل، فأي دولة غير منسجمة مع محيطها الجغرافي وبيئتها الثقافية، تَضْعُف عالمياً، فما بالك إذا كانت الجماعات الحاكمة تعلن عداءها للدول الكبرى أيضاً، وتسعى جاهدة لعزل العراق وجعله تابعاً لدولة أخرى! وحتى إيران، الدولة الشيعية الكبرى، لم تتخذ يوم الغدير عطلة رسمية، لأنها تدرك حجم الضرر الذي سيلحق بعلاقاتها الدولية بسببه.
إن تبنّي الدولة لرواية تأريخية مناقضة لما يؤمن به معظم مسلمي العالم، عمل طائش وخطير، والذين أقدموا عليه، إما أنهم لا يدركون خطورته، أو أنهم لا يكترثون مطلقاً لمصلحة العراق وشعبه، وكل الذي يهمهم هو تأجيج الطائفية من أجل البقاء في السلطة وممارسة القمع وسرقة المال العام والإثراء غير المشروع. لكن إثارة الانقسام المجتمعي والصراع الطائفي، وعزل العراق عن العالمين العربي والإسلامي، ثم إضعافه عالمياً عبر معاداة الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، سوف يحوله إلى كيان هزيل تتحكم به حتى أصغر الدول الإقليمية وأضعفها، وتستهين به الدول جميعاً، وحينئذ، لن يجد هؤلاء من يساندهم أو يأويهم.
كثرة العطل تنخر بجسد العراق، الذي يحتاج إلى العمل الدؤوب كي يلحق بالدول النامية، ناهيك عن الدول المتقدمة، وهي تدمر الاقتصاد وتُفقِر الشعب وتُضعِف المؤسسات وتشيع الفوضى والاتكالية في المجتمع. ولولا الريع النفطي، الذي سينضب قريباً، لجاع العراقيون وتشتتوا، خصوصاً مع شح المياه واتساع التصحر وتدهور الأمن مع تصاعد الاحتقان الطائفي. المستغرب حقاً هو صمت المرجعيات الشيعية إزاء هذا العبث السياسي المستمر باسم الدين والمذهب، الذي تمارسه جماعات لا عهد لها بدين أو مبدأ، وكل ما تفعله يؤدي إلى إضعاف العراق سياسياً واقتصادياً وتهميشه إقليمياً وعالمياً.
كاتب عراقي