النهار

كيف تعيد الاستدامة تشكيل صناعة الرفاهية؟
د. إلهام الشحيمي
المصدر: النهار العربي
في مشهد الأعمال السريع التطور اليوم، برزت الاستدامة كعامل حاسم يؤثر على اتجاهات السوق. ومع تزايد وعي المستهلكين والطلب على المنتجات والخدمات الصديقة للبيئة، فإن الشركات التي تعطي الأولوية للاستدامة لا تلبي توقعات العملاء فحسب، بل تكتسب أيضاً ميزة تنافسية.
كيف تعيد الاستدامة تشكيل صناعة الرفاهية؟
الاستدامة في صناعة الجلود.
A+   A-
 
في مشهد الأعمال السريع التطور اليوم، برزت الاستدامة كعامل حاسم يؤثر على اتجاهات السوق. ومع تزايد وعي المستهلكين والطلب على المنتجات والخدمات الصديقة للبيئة، فإن الشركات التي تعطي الأولوية للاستدامة لا تلبي توقعات العملاء فحسب، بل تكتسب أيضاً ميزة تنافسية.
 
 تقليديًا، ارتبطت صناعة الرفاهية بالترف والبذخ، لكنها الآن تشهد تحولًا هامًا، مدفوعًا بزيادة الوعي بالقضايا البيئية والطلب المتزايد من المستهلكين لممارسات مسؤولة وأخلاقية. هذا التحول نحو الاستدامة ليس مجرد اتجاه، ولكنه تطور عميق في كيفية عمل العلامات التجارية الفاخرة وابتكارها وتفاعلها مع عملائها.
أصبح المستهلكون اليوم أكثر وعياً وتأثيراً فيما يتعلق بالتأثير البيئي للمنتجات التي يشترونها إذ يُفضل المستهلكون الآن العلامات التجارية التي تظهر التزاماً حقيقياً بالاستدامة، مما يدفع الشركات إلى تبني ممارسات أكثر مسؤولية كما ويساهم هذا الوعي المتزايد في الضغط على الشركات لتبني ممارسات أكثر شفافية ومسؤولية بيئيًا واجتماعيًا.
 
تلعب الحكومات دورًا متزايد الأهمية في دفع الشركات نحو الاستدامة من خلال سن تشريعات وتنظيمات بيئية صارمة. هذا يجبر الشركات على الابتكار والبحث عن حلول مستدامة لتلبية هذه المتطلبات. تعزز هذه القوانين الإطار التنظيمي الذي يشجع الشركات على تحسين كفاءتها البيئية وتقليل انبعاثاتها الكربونية.
توفر التكنولوجيا الحديثة فرصًا جديدة للشركات الفاخرة لتحسين كفاءتها وتقليل تأثيرها البيئي، من خلال اعتماد تقنيات جديدة. في السنوات الأخيرة، بدأت الشركات الفاخرة تركز بشكل أكبر على الاستدامة من خلال استخدام مواد صديقة للبيئة وتقنيات إنتاج متطورة تقلل من استهلاك الطاقة والانبعاثات الكربونية. 
 
فهم التحول: لماذا تهم الاستدامة في الرفاهية
لطالما تعرضت صناعة الرفاهية للتدقيق بسبب بصمتها البيئية الكبيرة، حيث تشمل عملياتها استهلاكًا مكثفًا لموارد غالبًا ما تكون محدودة من ناحية الاستدامة. تاريخيًا، ارتبطت هذه الصناعة بالإسراف واستخدام المواد النادرة والممارسات التي لا تضع البيئة في عين الاعتبار. ومع ذلك، فإن المد يتغير، حيث أصبح المستهلكون الفاخرون اليوم أكثر وعيًا بالبيئة وملتزمين بالاستدامة. بحيث يطالب هؤلاء المستهلكون، بما في ذلك عدد كبير من جيل الألفية وجيل زد، بمزيد من الشفافية والالتزام بالاستدامة، فهذا التحول الديموغرافي حاسم لأن هؤلاء المستهلكين الأصغر هم مستقبل السوق. فبحسب ‬تقرير‭ ‬‮" ‮ أعمق" الذي نشره صندوق الحفاظ العالمي على البيئة في بريطانيا، والذي أشار الى أن بعض مستهلكي منتجات وخدمات الرفاهية هم في الحقيقة متأثرون بالقضايا البيئية. ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
يتميز جيل الألفية وجيل زد بوعيهم العميق بالقضايا البيئية والاجتماعية، ويؤثر هذا الوعي بشكل كبير على قرارات الشراء لديهم، فهم يبحثون عن منتجات لا توفر لهم فقط الجودة والترف، ولكن أيضًا تعكس قيمهم الأخلاقية والبيئية. هذا التحول في الطلب يجبر العلامات التجارية الفاخرة على إعادة تقييم ممارساتها واعتماد ممارسات مستدامة وشاملة تلبي توقعات المستهلكين الجدد.
 
تستجيب العلامات التجارية الفاخرة لهذا التحول ليس فقط بسبب ضغوط المستهلكين ولكن أيضًا بسبب التهديد المحتمل للتغييرات التنظيمية ومخاطر ندرة الموارد. وهناك إدراك متزايد بأن الممارسات المستدامة يمكن أن تدفع الابتكار، وتفتح أسواقًا جديدة، وتعزز قيمة العلامة التجارية من خلال التوافق مع قيم قاعدة عملاء أوسع.  كما أن الحكومات بدأت تفرض تشريعات بيئية صارمة تجبر الشركات على تبني ممارسات أكثر استدامة
 
الممارسات المستدامة في صناعة الرفاهية: المواد وتقنيات الإنتاج الصديقة للبيئة
تتبنى العلامات التجارية الفاخرة في صناعة الرفاهية مواد وتقنيات إنتاج صديقة للبيئة بشكل متزايد، حيث تسعى للمساهمة في الحفاظ على البيئة وتقليل الآثار السلبية على الطبيعة. يعتبر استخدام الأقمشة المعاد تدويرها والمواد العضوية من الخطوات الرئيسية التي تتخذها هذه العلامات لتحقيق ذلك. فمثلاً، يمكن أن تستخدم دور الأزياء الراقية الأقمشة المصنوعة من مواد معاد تدويرها، مما يقلل من استهلاك الموارد الطبيعية ويحد من النفايات.
 
بالإضافة إلى ذلك، يتم تعزيز الابتكارات في مجال المواد المستدامة، مثل الألماس المزروع في المختبر وبدائل الجلود، والتي تقدم أداءً وجودة مماثلة للمواد التقليدية، لكن بتأثير بيئي أقل. فالألماس المزروع في المختبر يساهم في الحد من تعدين الألماس التقليدي، الذي يمكن أن يكون له آثار سلبية على البيئة والمجتمعات المحلية. وبالنسبة لبدائل الجلود، فهي تقلل من الاعتماد على صناعة الجلود التقليدية التي تشكل تحديات بيئية وأخلاقية، كما تسهم في الحفاظ على حياة الحيوانات. فعلى سبيل المثال باتاغونيا هي واحدة من الشركات الرائدة في مجال الأزياء المستدامة، وقد اتخذت خطوات كبيرة نحو استخدام المواد الصديقة للبيئة وتقليل الأثر البيئي لصناعتها.
 
نماذج الاقتصاد الدائري
في عالم الرفاهية، أصبحت مفاهيم الاقتصاد الدائري جوهرية للتطور والاستمرارية. يُعتبر الاقتصاد الدائري نموذجًا يهدف إلى تحقيق الاستدامة من خلال تصميم وتشغيل النظم الاقتصادية بطريقة تسمح بإعادة استخدام الموارد وتقليل النفايات.
 
في هذا السياق، تعتمد العلامات التجارية الفاخرة على تكامل مبادئ الاقتصاد الدائري في عملياتها. فهي تضمن تصميم منتجاتها بطريقة تسمح بإطالة عمرها الافتراضي وتعزز إمكانية إعادة تدويرها بشكل فعال. كما تشجع على إنشاء خدمات الإصلاح المتاحة للمستهلكين، بحيث يمكن إصلاح المنتجات بدلاً من التخلص منها عندما يحدث بها عطل. فعلى سبيل المثال، العلامة التجارية للأحذية الفاخرة إيفلين  (Evelyn)  تعتمد في اعمالها مفهوم الاقتصاد الدائري من خلال استخدام مواد مستدامة مثل الجلود الطبيعية المعالجة بشكل صديق للبيئة والتي يتم إنتاجها بطرق مستدامة.
 
شفافية سلسلة التوريد
تتجه العلامات التجارية الفاخرة نحو تعزيز شفافية سلاسل التوريد الخاصة بها، مما يعني أنها تسعى جاهدة إلى جعل عمليات توريدها وإنتاجها مفتوحة وشفافة للجمهور. وفي هذا السياق، تعتبر المعايير البيئية والأخلاقية من أولوياتها القصوى، حيث تضع معايير صارمة للحفاظ على البيئة وضمان حقوق العمال والمجتمعات المحلية المتأثرة بعملياتها.
 
لتحقيق هذا الهدف، تنفذ العلامات التجارية الفاخرة مبادرات القابلة للتتبع، وتسعى لتوفير رؤية شاملة لعمليات إنتاج المنتجات، بدءًا من مرحلة استخراج المواد الخام ووصولًا إلى توزيع المنتجات النهائية للعملاء. ومن خلال هذه المبادرات، يمكن للمستهلكين متابعة كل جزء من رحلة المنتج، مما يساعدهم على فهم كيفية صناعته وتأثيره على البيئة والمجتمع.
 
وتهدف هذه المبادرات إلى زيادة الشفافية في عمليات الإنتاج، مما يساعد على بناء الثقة بين العلامة التجارية والمستهلكين. بالإضافة إلى ذلك، تسهم هذه الجهود في تعزيز الوعي على أهمية الاستدامة والمسؤولية الاجتماعية في صناعة الرفاهية، وتشجيع المستهلكين على اتخاذ قرارات شراء مدروسة ومستنيرة.
 
التوريد الأخلاقي
في مجال التوريد الأخلاقي، تعتبر مصادر المواد الخام منطقة حرجة حيث تركز العلامات التجارية الفاخرة جهودها نحو الاستدامة والمسؤولية الاجتماعية. وتتجه هذه العلامات نحو استخدام المواد المصدرة بطرق أخلاقية تضمن رفاهية العمال وتقليل الآثار السلبية على البيئة.
فمثلاً، يعتبر توريد المعادن والألماس الخالي من النزاعات أحد الأولويات للعديد من العلامات التجارية للمجوهرات الراقية، حيث تتعاون هذه العلامات مع مزودي المواد الخام الذين يتبنون بدورهم معايير أخلاقية عالية، مما يضمن عدم استغلال العمال وحقوقهم، ويتجنبون استخدام المواد التي تم توريدها من مناطق تعاني من النزاعات أو انتهاكات حقوق الإنسان.
 
بالإضافة إلى ذلك، تسعى هذه العلامات لتعزيز التعاون مع الموردين الذين يلتزمون بالمعايير الدولية للعمل وحقوق الإنسان والبيئة. وتقوم بتوفير دعم فني ومالي لتطوير ممارسات مستدامة وفعالة في عمليات استخراج وتصنيع المواد الخام.
بهذه الطريقة، تسعى العلامات التجارية الفاخرة للتأكد من أن توريد المواد الخام يتم بشكل أخلاقي ومستدام، مما يعزز من مكانتها في السوق ويؤكد التزامها بالمسؤولية الاجتماعية والبيئية. فعلى سبيل المثال تجسد رولكس التميز في كل جانب من جوانب أعمالها، من تصميماتها المبتكرة وتقنياتها الحاصلة على براءة اختراع، إلى التزامها بالمصادر الأخلاقية والمسؤولية البيئية.
 
تأثير الاستدامة على صورة العلامة التجارية وتصور المستهلك
الاستدامة تؤثر بشكل ملحوظ على كيفية نظر المستهلكين إلى العلامات التجارية وكيفية اتخاذهم لقرارات الشراء، حيث تُعتبر الممارسات المستدامة عاملاً محورياً في بناء صورة العلامة التجارية وجاذبيتها بين الجمهور.
 
فبفضل هذه الممارسات، تحظى العلامات التجارية بميزة تنافسية قوية من خلال تعزيز صورتها وسمعتها في أذهان المستهلكين.
بشكل عام، ينظر المستهلكون إلى العلامات التجارية المستدامة على أنها تتبنى مواقف أكثر اهتمامًا ومسؤولية تجاه البيئة والمجتمع، وبالتالي، يصبحون أكثر استعدادًا لدعم هذه العلامات التجارية وشراء منتجاتها، مما يرفع من رفاهية وجاذبية العلامة التجارية في عيونهم، فعلى سبيل المثال، يميل المستهلكون الباحثون عن منتجات فاخرة إلى تفضيل العلامات التجارية التي تتبنى الممارسات المستدامة وتلتزم بالمسؤولية الاجتماعية والبيئية.
لذا، يُعتبر تبني الاستدامة جزءًا لا يتجزأ من استراتيجية العلامة التجارية، حيث يساهم في بناء صورة إيجابية في أذهان المستهلكين، وبناء علاقات تجارية قوية ومستدامة على المدى الطويل.
 
التحديات والفرص المستقبلية
تشكل التحديات والفرص المستقبلية في مجال الاستدامة عنصراً أساسياً في تطور الأعمال والصناعات، فعلى الرغم من التحديات التي تشمل تكاليف الانتقال العالية وتعقيد تغيير سلاسل التوريد المعتادة، إلا أن السعي نحو الاستدامة يفتح الباب أمام فرص كبيرة للابتكار والنمو.
كما ان التطور التكنولوجي، أتاح المزيد من الفرص لتطوير مواد وعمليات جديدة تتماشى مع أهداف الاستدامة دون المساس بالجودة أو الرفاهية. وبالتالي، يمكن للشركات استغلال هذه الفرص لتحسين كفاءة عملياتها وتقديم منتجات أكثر استدامة وجذابة للعملاء.
 
بالإضافة إلى ذلك، يمكن للتوجه نحو الاستدامة أن يفتح أسواقًا جديدة وفئات ديموغرافية جديدة، فالعلامات التجارية التي تتبنى مبادئ الاستدامة قد تكسب ولاء المستهلكين الشباب والأكثر وعيًا بالبيئة، مما يمكنها من تحقيق نجاح مستدام في السوق المستقبلي وتعزيز مكانتها كزعيم في مجال الاستدامة.
في الختام إن تحول صناعة الرفاهية نحو الاستدامة يمثل تحولًا جذريًا في نهج العلامات التجارية وسلوك المستهلكين على حد سواء. فلقد بدأت الشركات الفاخرة في التوجه نحو الاستدامة لأسباب أكثر من مجرد المسؤولية الاجتماعية، بل لأنها أصبحت ضرورة استراتيجية للبقاء والازدهار في عصر يتطلب الحفاظ على الموارد الطبيعية والحفاظ على البيئة.
 
ومع استمرار هذا التحول، نتوقع رؤية المزيد من الابتكارات الناشئة، حيث ستتجه العلامات التجارية الفاخرة لتقديم منتجات وخدمات تجمع بين الفخامة والاستدامة بطرق مبتكرة، وهذا ليس مجرد مرحلة مؤقتة، بل يمثل جوهر مستقبل الرفاهية.
 
فعندما تصبح الاستدامة جزءًا لا يتجزأ من قيم ومفاهيم الرفاهية، يتغير نهج الاستهلاك نحو التفكير الشامل في الآثار البيئية والاجتماعية للمنتجات والخدمات التي نستهلكها، كما ويتحول الاستهلاك من كونه مجرد عملية شراء إلى تجربة تتضمن الوعي والتفكير في المسؤولية تجاه البيئة والمجتمع.
لذلك، يمكننا القول بثقة إن التحول نحو الاستدامة في صناعة الرفاهية ليس مجرد تغيير في الاتجاه الاستراتيجي، بل هو تحول ثقافي واقتصادي يؤثر على سلوك المستهلك وتفضيلاته، وهو يعكس الاستجابة لمطالب العصر وحاجات المجتمع بشكل متزايد للمحافظة على البيئة وتحقيق التوازن بين الرفاهية الحالية واحتياجات الأجيال القادمة.

اقرأ في النهار Premium