ها نحن في رفح، ومن راهن قبل أشهر قليلة على أن حرب الإبادة الجماعية التي تتعرّض لها غزة لن تصل إلى رفح، فقد خسر الرهان. فمعركة رفح قائمة وبأبشع ما يكون عليه الهجوم العنصري.
لكن، مثل كل مرّة، تجد لعبة المصطلحات فرصتها لتمرير الواقع المرّ، فلا يُقال اجتياح إسرائيلي بل يُقال تقدّم للدبابات، ولا يُقال معركة بل يُقال اشتباك، ولا تهجير ولا استئصال بل نزوح! لكن الأخطر في معركة فلسطين مع لعبة المصطلحات والذاكرة هو المحاولات القائمة على قدم وساق لتغييب فلسطين بوصفها قضية محورية وبوصفها "كلمة" تعني "وطن".
نجد معظم المنابر الإعلامية المؤثرة، عربياً وعالمياً، تتجنّب ذكر فلسطين والقضية الفلسطينية، وتعمد إلى تجزئة القضية بوعي. فهي معركة محدودة في مخيم هنا، أو اشتباك على حدود هناك، أو مجرد نقص في الحقوق المدنية، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية. مؤخّراً، تُكرّس القضية على أساس أنها معركة غزة، ولا تُذكر غزة بصفتها جزءاً من الوطن الفلسطيني، إنما تُقدّم هنا بإلحاح كأنها قطاع منفصل جغرافياً ووجدانياً، وفيها حكومة منفصلة، بل مقاومة منفصلة، حتى وجدنا من يقدّم غزة كأنها شعب منفصل، فصار عندنا شعب غزة و"الغزاويون"، مع الابتعاد عن أي ذكر لفلسطين. ويتجنّب الإعلام، بما فيه محطات التلفزة العربية المؤثرة، مصطلح المقاومة الفلسطينية، ويهمل مفردة "منظمة التحرير الفلسطينية" بشكل متعمد، والمبرر الدائم هو الإنقسام الفلسطيني - الفلسطيني.
نعم، إنه إنقسام موجع وجّه ضربة مؤلمة للقضية الفلسطينية، وصف النضال العربي عموماً، وليس الفلسطيني وحده. لكننا لا ننسى أن أول خطوة لرأب الصدع هي الحفاظ على هذا الكيان، كونه إنجازاً لكل الشعب الفلسطيني، لا يخصّ فصيلاً فلسطينياً وحده، وكونه المؤسسة الشرعية التي عليها أن تقود الثورة نحو الدولة.
مع الصمت على حصار القضية الفلسطينية، والابتعاد المدروس عن ذكر فلسطين بوصفها وطناً، وحصر القضية في نضال محدود ونزاع جهوي، بحجة تسليط الضوء على غزة، الجرح الكبير المفتوح في كل قلب اليوم، علينا أن ننتبه إلى أمر مهمّ: صار عندنا الآن قضية غزة، لا قضية فلسطين، وبالتالي أي انتصار أو حلّ لن يتجاوز القطاع الجريح، ولن يعمّ الوطن السليب.
الأهم من هذا كله، بعد أشهر من الدمار وحرب الإبادة، ها نحن نُسحب جميعاً إلى مربعات أصغر: معارك شمال غزة، ثم معارك جنوب غزة، والآن كل الضغط على معركة رفح. هل تتمّ معركة رفح بالوحشية الصهيونية المعتادة، أم يحول العالم دون حصولها؟
الجواب واضح: لن تتوقف آلة الحرب الإسرائيلية في رفح، وستصعّد وحشيتها، ولن يجرؤ الإعلام والقادة على ذكر غزة، كما عمدوا إلى نسيان فلسطين كمفردة وكوطن، فيتدنى سقف مطالبنا إلى مستوى رفح لا أكثر. هذا السيناريو مؤلم حقاً، وهو أشبه بكابوس يجثم على قلب هذه الأمة، وليس على قلب الفلسطيني وحده.
لن تتوقف معركة رفح وينتهي حصار غزة وتتوقف حروب الدمار في الضفة إلّا بعودة الأمور إلى نصابها، وأول ذلك الحديث عن وحدة القضية الفلسطينية، وإعادة المعركة إلى سكتها الصحيحة، أي أنها معركة استرداد وطن اسمه فلسطين، وليست معركة حقوق مدنية ولا حرّية عبادات لمجموعات وجدت على أرض لا اسم لها. ولا تدور المعركة حول القليل من الطحين والزيت لسدّ الرمق في المخيمات، إنما لإنهاء المخيمات وبناء الوطن السليب.
ندرك حقاً أن سيناريو بنيامين نتنياهو هو سيناريو معظم الكيان الصهيوني، ولا يقتصر على اليمين المتطرّف وحده. وهذا السيناريو يقود إلى ما هو أبعد من تصفية القضية الفلسطينية... نحو صنع شرق مظلم، وجغرافية أخرى في المنطقة. ذلك اندفاع مجنون لن ينجح حتماً، بل سيصطدم بحلفائه قبل أعدائه. وما يوقف هذا الجنون، قبل كل شيء، هو صمود الشعب الفلسطينى أولاً وأخيراً، إضافة إلى يقظة شعوب العالم، التي تتبلور أكثر في مسار صحيح يسعى إلى استعادة ألق القضية. وما إعلان إعترافات الدول الأوروبية مؤخّراً بالدولة الفلسطينية إلّا مؤشر على هذه اليقظة. فهذه الدول لم تردّ على إسرائيل بالمطالبة بوقف معركة رفح، بل ردّت بإعترافها بدولة فلسطين، وهذا آخر ما كان ينتظره جنون الصهيونية في تل أبيب. فقد بلغ عدد الدول التي تعترف بالدولة الفلسطينية 147 دولة، أي معظم العالم.
علينا أخيراً أن ندرك أهمية العودة إلى الخطاب الواضح: فلسطين قضية وطن وليست قضية حقوق مدنية. حين كتب الكاتب الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني روايته "عائد إلى حيفا" في عام 1969، كانت حيفا رمزياً كل فلسطين. إننا بحاجة لرواية أوسع أفقاً الآن: "عائد إلى فلسطين"... فهذه هي المعركة الحقيقية.