الاعتبارات العمياء لا تحرك الزمان، إنما الظروف الحاكمة؛ يتأسس مفهوم "الديموقراطية" على تطبيقات حكم الشعب لنفسه، كل شعب يرفض بأن يُحكم بالحديد والنار وبالتالي لن يقبل أن يحكم شعوباً أخرى بالحديد والنار أيضاً، وإنْ حدث العكس فالنظام المعمول به ليس "ديموقراطياً"، وإن زعم غير ذلك، هذه محنة الديموقراطية الغربية الآن، الأميركية بالذات، مع الجرائم الإسرائيلية في غزة، محنة لا تخفيها الأصباغ الكثيرة على وجه تلك الديموقراطية!
تسعة أشهر
بعد نحو تسعة أشهر من اندلاع الحرب في غزة، بدأت مواقف الدول الغربية تتزحزح باتجاه أكثر ميلاً للإنصاف والإنسانية. اعترفت دول أوروبية بالدولة الفلسطينية، وعمّت مظاهرات التأييد للفلسطينيين دولاً أخرى. تبدى ذلك في المحافل الدولية، كالأمم المتحدة والمحكمة الجنائية ومحكمة العدل الدولية، وهكذا، سعياً لوقف المذابح الإسرائيلية، باتت إسرائيل دولة مارقة على القانون الدولي ومنبوذة سياسياً على الصعيد العالمي، البلد الوحيد الذي شذ عن هذا الاتجاه هو الولايات المتحدة، القوة العظمى الأولى، الدولة الديموقراطية الأقوى سياسياً واقتصادياً وعسكرياً على سطح الكوكب، يمعن مسؤولوها من الرئيس إلى وزير الخارجية إلى معظم أعضاء الكونغرس في تحيزهم للمعتدي، بمواقف تخالف الضمير والقانون وأسس الديموقراطية وحقوق الإنسان التي يتشدقون بها ليل نهار، ويشهرونها سيفاً في وجه الآخرين إذا لم يأخذوا برسومها الشكلية!
وهنت الشجاعة الحقيقية في أروقة الحكم بواشنطن، انكشف الوجه القبيح للديموقراطية الأميركية، برغم المقترح الذي قدمه الرئيس بايدن لوقف النار في غزة. يعود ذلك لخلل جسيم في بنية الديموقراطية الأميركية نفسها، أصابها بالعمى أو الحول المؤقت، صارت - بحسب المفكر الأميركي اليهودي نعوم تشومسكي – "أداة لتحكم الأقلية بالأكثرية، منظومة حكومية تسيطر فيها صفوة المجتمع من رجال المال والأعمال على الدولة؛ في حين تتفرج بقية سكان البلاد على ما يحدث في صمت". تشومسكي أوضح أن ذلك ينطبق أيضاً بدرجات متفاوتة على معظم الديموقراطيات الغربية، بما فيها "ديموقراطية" إسرائيل الوصيفة لديموقراطية حكم "الأبارتايد" البائد بجنوب أفريقيا.
غرور القوة
يعد الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية أحد صور الاستعمار القديم. تخلى الغرب عن الاستعمار المباشر لبلدان الجنوب إلى الهيمنة عن طريق الاقتصاد والأسواق، لكن الولايات المتحدة لم تتخل كلياً عن التدخل العسكري وفرض الأمر الواقع بالقوة، ضاربة عرض الحائط بميثاق الأمم المتحدة، ومبادئ حقوق الإنسان، وحق تقرير المصير، التي تتعانق مع الديموقراطية الحقة. حروبها في فيتنام وأفغانستان والعراق أدلة قاطعة على غرور القوة ونفورها من ضوابط القانون الدولى والإنساني.
من "رذائل الديموقراطية الأميركية" أنها تعطي الضوء الأخضر لمحميتها إسرائيل (الديموقراطية أيضاً) لاقتراف كل الجرائم البشعة، تستهلك بشراً أبرياء من أهالي غزة وتصرف انتباه بقية شعوب الأرض عن غياب العدل والمساواة، ثم تدعي المظلومية. لقد أثبتت الحرب في غزة أنه جرى إفراغ الديموقراطية من مضامينها الحقة. باتت خاوية إلا من القشرة التي سرعان ما تتكسر لتدور الدوائر مجدداً بأنظمة حكم شبيهة بالنازية والفاشية والصهيونية.
في القرن الخامس قبل الميلاد، قال المؤرخ هيرودوت إن "أسمى فضائل الديموقراطية هي المساواة أمام القانون"، في حين ذهب الفيلسوف الانكليزي إيرل شافتسبري الثالث إلى أن "الاحتكاك بين البشر نتيجة طيبة للحياة الحديثة، نحن نصقل بعضنا بعضاً، ويجب أن يجري الاحتكاك في سلام واحترام، مع التخلص من الجوانب الخشنة في شخصيتنا، وأن نهتم لمصالح الآخرين كما نهتم بمصالحنا بوصفنا كائنات عقلانية اجتماعية". وتبعاً لذلك فإن الساكتين عما يجري في غزة إما طغاة أو جهلة أو شركاء، وبالقطع أمثال بايدن وبلينكن ليسوا جهلة، أما أمثال نتنياهو وبن غفير وسموتريتش فقتلة عنصريون، لا صلة لهم بالديموقراطية، بالقطع العيب ليس في الديموقراطية بل في "الوحوش"!
من حق المرء أن يتساءل: هل يحدد الساسة في واشنطن القواعد العامة التي يتعين على بقية العالم أن يعترف بها، خاصة بشأن آليات الممارسة الديموقراطية وصورها؟ أم هل هناك صيرورات للسيطرة العالمية هي التي تفرض نفسها حتى على هؤلاء الساسة في واشنطن؟
وقفة مع الصديق
من المنظور الاستراتيجي، يقود تحليل تداعيات الحرب في غزة إلى نتيجة فائقة الأهمية، أن ملامح الوهن تزحف على الإمبراطورية الأميركية في السنة الأخيرة من حكم الرئيس جو بايدن ولم تكن ظاهرة بهذا القدر من الوضوح، ولو فاز بايدن بالرئاسة لفترة ثانية أو عاد دونالد ترامب المدان بقضية "أموال الصمت" إلى الرئاسة مرة أخرى، سيتشكل مشهد مثير في واشنطن، تنحصر خيارات الأميركيين بين رجلين يشتبه بارتكابهما جرائم حرب أو جرائم جنسية ومالية، وتلك قمة "الكوميديا السوداء" بقلب أقوى دولة في التاريخ، لا أحد يدري ماذا يخبئ القدر لأميركا والعالم من ورائها، بعدما هدد أنصار ترامب بالعصيان المسلح والتمرد في حالة صدور حكم بسجنه أو منعه من الترشح للرئاسة أو تقييد حركته، بل قالوا إنهم قد يقتلون القاضي الذي يصدر الحكم.
تبدو الديموقراطية الأميركية عليلة داخلياً ومن ثمّ خارجياً. المثير أن بعض مظاهر الاضمحلال بدأت في الظهور على الإمبراطورية الأميركية، لكن دون وجود بديل إمبراطوري آخر. عرفت الإنسانية دوماً إمبراطوريات متعاقبة، تصعد وتهبط وفقاً لصيرورات غير معروفة، وإن كانت مؤشراتها تبدو واضحة للعيان قبل سقوطها، بمعنى آخر عرف العالم صعود إمبراطوريات وهبوط أخرى، في تعاقب يشبه تعاقب الليل والنهار.
ربما الجانب الوحيد المضئ في الحرب الإسرائيلية - الأميركية على غزة أنها عززت نسبياً قدرة القوى الإقليمية على فرض واقع جديد، ضد بعض حلفاء الولايات المتحدة في المناطق الجغرافية المختلفة (إسرائيل - تايوان، مثلاً) لكن من دون أن يعني ذلك أن هذه النتيجة ستمس - مباشرة أو في غضون فترة معلومة - بالتراتبية الحالية في النظام الدولي. صحيح أن قانون الجدلية الأساسي يقول إن "التغييرات الكمية تؤدي إلى تحولات نوعية"، لكن يصعب التنبؤ بالفترة اللازمة للوصول إلى نظام دولي متعدد الأقطاب، وربما تكون الفرصة مواتية للعرب لوقفة موضوعية مع الصديق الأميركي، تصون حقوقهم وتضمن مصالحهم، في عالم لا يفهم إلا لغة القوة، حتى لو رفع الصديق الديموقراطية وحقوق الإنسان شعاراً شكلياً براقاً!