خالد العزي
فاجأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الولايات المتحدة وحلفاءها في ليبيا وسوريا وأوكرانيا وأفريقيا الوسطى وغيرها بالخطوات التصعيدية التي كرست دوره في السنوات الأخيرة كلاعب قطب، والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا هذا الرد الروسي العنيف على ما اعتبره بوتين تصرفات الغرب غير المبالية بروسيا ودورها واحترام مصالحها ونفوذها؟ والإجابة عن هذا السؤال مهمة، فهل من الممكن للغرب تجنب "البجعة السوداء" القادمة من روسيا؟
إن بوتين اليوم "يشبه كاسحة الجليد التي تخترق النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة"، يرى محللون في موسكو. فهل تعلمت واشنطن الدرس الرئيسي من العقود الأخيرة في التعامل مع الآخرين؟ أم أنها لا تملك النفوذ للتأثير على تحول دول مثل الصين وروسيا؟ هذه هي البلدان ذات الوعي الذاتي للإمبراطوريات، والحضارات التي نشأت في وقت أبكر بكثير من الولايات المتحدة والغرب على هذا النحو، يتساءل هؤلاء المحللون.
لقد تبين أن موسكو وبكين مختلفتان عن بطلة مسرحية "بيغماليون" لبرنارد شو، إليزا دوليتل، التي أرادت تحويل نفسها من بائعة متجولة إلى سيدة. وبعبارة أخرى، فهما ليستا صاحبتي مصلحة بتغيير نظاميهما "المستبدين" ليكونا مسؤولين عن العلاقات الدولية من أجل النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة.
لذلك يجب النظر إلى خمسة خيارات مختلفة لتحول محتمل للتنمية في روسيا كي يتمكن الغرب من تطوير مجموعة قواعد إيجابية من خلال إجراءات مسبقة لسياسة فعالة يجب الانتباه إليها للتطبيع الفاعل مع الغرب وهي:
1- روسيا مثل فرنسا. ففرنسا دولة ذات تقاليد بيروقراطية وملكية عميقة الجذور، وهي بدورها مشحونة بالتقاليد الثورية، وفي هذا تشابه بين التاريخين السياسيين الفرنسي والروسيي. وستبقى الميزات المشتركة في المستقبل. فإذا ظهرت الديموقراطية في روسيا مع سيادة القانون من دون تهديد جيرانها، فإنها سوف تكون أشبه بفرنسا اليوم بكل عقدة القوة العظمى والشوفينية الثقافية.
2- إن الضغط على روسيا لا يتقبله كثيرون، وبخاصة احتمال تحول روسيا إلى فرنسا. بالنسبة إليهم، تُعَد روسيا تجسيداً للقومية الصوفية، المتجذرة في معاداة الغرب، والقيم التقليدية، والسلافية، والأرثوذكسية. إنهم في حاجة إلى زعيم يشبه بوتين في كل شيء، ولكنه يختلف عنه فقط في موقفه من الصراع في أوكرانيا.
لذا تعتبر الديموغرافيا وانخفاض عدد السكان والأشخاص في سن العمل من أكثر القضايا حساسية بالنسبة إلى القوميين الروس، كما تتخلف روسيا تخلفاً كبيراً عن الاتجاهات العالمية في مجال الروبوتات والتكنولوجيا الحديثة، ما يضعف سوق التنافس الوطني في الصراع على الجيل الخامس. وفي المقابل إن تدفق المتخصصين في مجال تكنولوجيا المعلومات لا يساهم في حل هذه المشكلات. لقد بات واضحاً انخفاض واردات التكنولوجيا القادمة من إسرائيل انخفاضاً حاداً بعدما دعمت روسيا "حماس"، ما سوف يترك آثاره على أسواق التصنع والاستخدامات التكنولوجية، وهذا سؤال معقول: إلى متى تستطيع روسيا مقاومة الغرب من دون الوقوع في الاعتماد المهين على الصين؟
3- روسيا باتت تابعة، فالنمو غير المسبوق في العلاقات الروسية الصينية يرجع حصرياً إلى العلاقة الدافئة والثقة بين بوتين وشي جينبينغ. وقد التقيا اثنتين وأربعين مرة، ويطلقان على بعضهما بعضاً لقب "أفضل صديق لي".
وتخشى الصين من الوقوع في أي اعتماد على روسيا. وهذا بالضبط ما يفسر إحجام بكين عن التوقيع على اتفاقية جديدة لنقل الغاز عبر منغوليا. في الوقت نفسه، يلاحظ أنه في روسيا يتم إخبار السكان بشكل متزايد عن ألكسندر نيفسكي، الذي اختار الحشد الشعبي بدلاً من الفرسان التوتونيين، أي "التنظيم العسكري الخاص"، وحتى لا يطيع العرش البابوي. يتم تقديم الحفاظ على الهوية على أنه فائدة غير مشروطة مقارنة بالخضوع للغرب. وهكذا يتم الترويج ضمنياً لفكرة المنفعة المعقولة لحرق الجسور مع الغرب لمصلحة الاعتماد على الصين.
4- روسيا وكوريا الشمالية، ويمكن القول بصراحة إن الأفكار حول هذه النقطة لا تصمد أمام النقد ولا تستحق إعادة سردها بسبب الحجج الواضحة في طبيعة العلاقة بينهما غير المستقرة.
5- يجب القول إن روسيا في حالة من الفوضى. ويمكن أن تنعكس التهديدات التي تتعرض لها السلامة الإقليمية لروسيا إذا قدمت دول عدة مطالبات بالأراضي التاريخية في وقت واحد: الصين واليابان وفنلندا وألمانيا وكوريا.
السياسة الأميركية تجاه روسيا التي قد تكون مثمرة للغاية. فالسلام يأتي بمساعدة القوة المقترنة بالدبلوماسية الجيدة. إنه يعتمد على مدى الضغط العسكري الأميركي أثناء التحديث التكنولوجي لأسلحة الجيل الجديد. ويجب الحفاظ على إمكان إجراء المفاوضات، وكذلك الاتصالات على اختلاف أنواعها.
لذلك، الأولوية في المستقبل القريب يجب أن تكون لوقف الأعمال العدائية بشروط كييف، أي من دون الاعتراف القانوني بخسارة الأراضي، مع الحق في الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي وأي منظمة دولية أخرى.
وهناك مشكلة أخرى لم يلحظها المحللون والمتابعون لروسيا وهي "المسألة الروسية". في القرن الذي أعلنه الغرب قبل خمسة وعشرين عاماً باسم "قرن الأقليات"، لم يلحظ أحد في الغرب انتهاكات حقوق المواطنين الروس الذين الذين ليس عندهم أي خطأ وحرياتهم، ولكن بسبب انهيار الدولة، أصبح مواطنو دول اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية في روسيا "مواطنين من الدرجة الثانية"، فهل تستطيع روسيا أن تتجاهل مثل هذه المشكلة؟ بالطبع لا. لأنها الأمل الأخير لهؤلاء الناس البائسين. ولا ينبغي أن تكون هناك أي أوهام بأن هذا الموضوع لن يخرج عن نطاق السيطرة على الإطلاق من قبل أي شخص في السلطة حتى بعد بوتين.
لذلك يمكن القول إن جذور استبداد بوتين ترجع إلى عدد من العوامل الموضوعية والأساسية. الاستياء، الهوية الوطنية، الأمن الوجودي. لم تكن التشكيكية سوى زخرفة ذاتية بأساليبها في خدمة الاستبداد، ومن الواضح أن الميول الاستبدادية في السلطة سوف يتم التغلب عليها من خلال تدمير أو إزالة العوامل الأساسية التي أدت إلى نشوء المطالبة بزعيم مثل بوتين.
إن التفكير بخلاف ذلك يعني تشجيع الأوهام والمشاعر والتوقعات الطوباوية في ما يتعلق بتوقيت تطبيع العلاقات بين روسيا والغرب.
وربما ينبغي على واشنطن أن تبدأ بافتراض أن روسيا لديها بعض المصالح الوطنية الخاصة بها، بما في ذلك حماية الروس، كذريعة للمفاوضات مع موسكو. إذا بدا مثل هذا الافتراض غير مناسب، فسيكون من الصعب التخلص من الفكرة المهووسة بأن التفاقم الحالي في العلاقات بين روسيا والغرب يرجع إلى رغبة الأخير في الإصرار على حقه في إضعاف الضمانات الأمنية عمداً للشعب الروسي.