ممتعٌ أحياناً كيف تنظر السياسات الخارجية في الغرب إلى تفاصيل الحالة اللبنانية بطريقة تنمّ قليلاً عن نقص في إدراك الحقيقة. فمثلاً، حين فرضت دولة غربية عقوبات على "الجناح العسكري لحزب الله"، لكن لا ضير في الاستمرار بمحادثة جناحه السياسي، فإنما كان ذلك مؤشراً إلى أن من يسوس خارجية هذه الدولة يستطيع رسم الحد الفاصل بين السياسة والعسكر في "حزب الله" اللبناني، فيما نعجز عنه نحن اللبنانيين... وأهل مكّة أدرى بشعابها. فالكل يعرف أن "حزب الله" تنظيم عسكري له وجه سياسي، تحاول القيادة أن تبرزه من خلال دور برلماني "ما"، لا يخرج – ولن يخرج – عن حد "الوفاء للمقاومة"، أي للعسكريتاريا في الحزب. ومنه، يتعاطى "حزب الله" مع كل الملفات اللبنانية.
لا يحيد هذا التفريق عن مسار العبث السياسي، إن كان تناول الحال في لبنان عموماً، وفي جنوبه خصوصاً، قائماً في أساسه على سياسة تحاول ألا تلمّ بتفاصيل لبنانية مبعثرة جداً، إن أحسنّا الظن طبعاً. وربما يظهر هذا الأمر جلياً في تناول الرسول الفرنسي جان إيف لودريان مسألة البحث عن رئيس للبناني، فيتلاطم بين موجات رؤساء الطوائف الدينية والسياسية، وما أكثرهم في لبنان.
على الضفة الأخرى من الأطلسي، يبدو أن الأميركيين استخلصوا عبراً كثيرة، من "اتفاق 17 أيار" الشهير الذي صاغه فيليب حبيب، تلميذ هنري كيسنجر، حتى اليوم، ما جعلهم أكثر إلماماً بخفايا النفس اللبنانية الأمارة بالسوء، دائماً. فبعد هبّة "حماس" في 7 تشرين الأول (أكتوبر) ونخوة "حزب الله" في اليوم التالي، شعر الجميع بتخاطر "ما" بين الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، والرئيس الأميركي جو بايدن. فالرجلان التقيا على أن حرباً كبرى على ضفتي الخط الأزرق لا تصب في صالح أحد، إلا رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو وحارسيه اليمنيين إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش. وعرف أحدهم في واشنطن أن مفتاح المشكلة وحلها في إيران، وأن إيران لا تريد حرباً، تحديداً في لبنان. فأرسل البيت الأبيض مندوبه "المتفائل دائماً" آموس هوكشتاين ليفعل شيئاً واحداً: "ضبط التصعيد ضمن قواعد الاشتباك"، لا أكثر ولا أقل.
بقي الأمر مضبوطاً، مع بعض الخروقات المسكوت عنها من الجانبين، مثل اغتيال صالح العاروري من جهة، وقصف قاعدة ميرون الاستخبارية من جهة أخرى. لكن، كان السؤال الذي يطرحه الأميركيون قبل غيرهم: ما الذي يلجم حزب الله عن شن حرب شعواء على شمال إسرائيل بكل ما أوتي من قوة إيرانية ما دامت إسرائيل تتصيّد عناصره وقادته بعيداً عن الجبهة، وقد ناهز عدد قتلاه 300 قتيل؟ أما زال هذا التخاطر موجوداً؟
لا مفرّ من اعتراف "حزب الله" وبيئته في لبنان، وأترابه من الجماعات الإيرانية في سوريا والعراق، بأن الأمر كله مرهون بمصالح إيرانية خاصة، لا صلة لها بفلسطين والأقصى والمقدسات وشعارات الحرب. فالمرشد الإيراني لا يريد أن يحارب إسرائيل، حتى بعدما قتلت غاراتها 28 من كبار مستشاريه في سوريا. لا يريد أن يحاربها، تحديداً من جنوب لبنان، لسببين: ورقة الحوثيين أفعل في الحرب المقدسة ضد الأميركيين وأعمّ، وطريقها أقصر إلى أي تسوية ما دام أذاها الدولي أوسع في اقتصاد العالم وأمنه الغذائي، وأفعل في محاولة طهران تعزيز مكانتها على الخريطة العالمية، مهما كان ثمن ذلك.
هذا أولاً. وثانياً، لا ترى طهران ما يدعو الآن إلى إنهاك "حزب الله"، درة تاج محور الممانعة، ما دام انتصاره في أي حرب قد لا يأتي سريعاً بفائدةٍ على النظام الإيراني؛ وما دامت خسارته في أي حرب ستوجّه لـ"وحدة الساحات" صفعةً قوية، حتى لو لم تتجاوز الترجمة الحربية لهذا المفهوم صاروخاً يُرمى من الجنوب اللبناني فيسقط في هضبة الجولان السورية، فلا يقتل أحداً.
نضجت السياسة الخارجية الأميركية، فوجد هوكشتاين ألّا ضرورة أن يأتي إلى المنطقة كثيراً، ما دام متأكداً من أن مطلب نتنياهو تراجع "حزب الله" حتى الليطاني أضغاث أحلام، وما دام عارفاً أن ليس ما يُثني نتنياهو عن توجيه ضربة إلى لبنان الذي صار مرادفاً لحزب الله في الأدبيات الأميركية والإسرائيلية.
المؤنس في هذا النضج الأميركي أنه يسير مع التخاطر الجميل بين واشنطن وحارة حريك في خطين متوازيين لا يلتقيان، إلا متى شاء خامنئي. وربما وصل هذا التخاطر إلى مستوى عالٍ من "التقاطع" دفع بـ الأمين العام لـ "حزب الله" إلى تصديق مقولة إن في يده أكثرية اللبنانيين، فدعا خصومه السياسيين في خطابه الأخير أن "تعالوا نعدّ!". أليس هذا ما تقوله واشنطن؟ وأليس هذا ما تستثمره حارة حريك وطهران؟ أليس ما سبق من كلام عن طلب هوكشتاين من صديقه نبيه بري، رئيس البرلمان اللبناني وأحد الثنائية الشيعية مع "حزب الله"، التوسط لدى "حماس" كي ترضى بخطة بايدن لوقف النار في غزة، إقراراً أميركياً بـ"وحدة الساحات" كما هي اليوم، واعترافاً بأن "حزب الله" يسوس لبنان كله، بلا ضرورة للعد؟ عندها، أليس لي أن أخشى أن تكون هذه كلها مقدمات لتلزيم واشنطن 2024 لبنان لإيران، كما لزّمت واشنطن 1976 لبنان لسوريا؟
جبريلُ الوحي السياسي أنت.. يا هوكشتاين!