تبيَّن أن تعاطي قوة دولية مؤثرة مع ما يجري في قطاع غزة وفي أماكن أخرى ساخنة؛ يؤشر إلى عودة صَلفة إلى اعتماد الخشونة السياسية بكل عناصرها ومندرجاتها. وبينما كانت الفرصة مُهيأة لإيجاد حلول دبلوماسية للحرب، وإنقاذ الشعب الفلسطيني بكل مكوناته من جحيم النار التي تحاصره من كل حدبٍ وصوب؛ ترانا أمام مقاربات متشدِّدة، لا يوجد فيها مكان للعاطفة السياسية ولا للرأفة الإنسانية، وتبقى حتى الآن لغة صواريخ القتل والإبادة تتقدّم على أصداح الأصوات العاقلة التي تعتمد على عناصر القوة الناعمة لتحقيق المصالح المشروعة.
ساهمت الولايات المتحدة الأميركية بشكلٍ فاعل في بناء منظومة القيم القانونية والدبلوماسية التي تأسست بعد الحرب العالمية الثانية، وكانت واشنطن رافعة للنظام الدولي الجديد الذي اعتمد على مبدأ سيادة الدول وحق تقرير المصير للشعوب التي تعاني من الاحتلال والهيمنة، رغم التحدّي الإعتراضي الكبير الذي كان يمثله الاتحاد السوفياتي السابق. وقد تمكن المجتمع الدولي من ترسيخ بعض المبادئ التي حافظت على الاستقرار النسبي في مناطق متعددة من العالم، وكان لتوازن الرعب النووي دور متقدّم في تحقيق شيء من السكينة.
الإسترخاء الذي حصل في السنوات العشر الماضية جرّاء بروز أهمية عوامل القوة الناعمة بدأ يتلاشى شيئاً فشيئاً جراء الحروب الجديدة، لاسيما الحرب على قطاع غزة ومتفرعاتها، وفي أوكرانيا وعدم الاستقرار في شرق آسيا، كما في التوترات في بعض الدول الإفريقية. وقد اندفعت غالبية الدول باتجاه تخصيص زيادات وازنة في موازنات الدفاع، لاسيما اليابان ومجموعة أعضاء حلف شمال الأطلسي ودول في الشرق الأوسط. والخطر الأمني الذي كان متمثلاً بالمجموعات الإرهابية والاعتراضية المُتفلِّتة – او "المظبوطة" عاد ليطلّ من خلال سياسات حكومية شرعية، وبتمويل من موازنات تقرّرها برلمانات بعض الدول الغنية، او الدول التي لديها طموحات توسعية، لمصلحة قوى ومنظمات خارجية.
القوة الناعمة للدول، والتي ترتكز إلى الاقتصاد والتجارة والتطور التكنولوجي وإلى الثقافة والدبلوماسية؛ مُهدّدة بجائحة راديكالية ملحوظة. وقد دفعت بعض دوائر الحكم في دول مؤثرة بهذا الإتجاه، فرأينا بأمّ العين كيف يسترضي بعض كبار الرؤساء المجموعات الضاغطة بخطابات مجاملة لا يوجد فيها توازن منطقي يعتمد على الأصول القانونية وعلى قوة الحق. وحصل الكثير من الشواهد على هذه المقاربات في دول شرقية كبرى وفي دول غربية عظمى، وآخرها اضطرار رئيس أكبر دولة في العالم، جو بايدن، للدفاع عن الانتهاكات الصارخة للقانون الدولي الإنساني التي حصلت في غزة، وهو قال بغير وجه حق إن ما جرى في قطاع غزة "ليس أعمال إبادة"، كما وصفها تقرير مدّعي عام محكمة الجنايات الدولية، وكما اعتبرتها توصيات محكمة العدل الدولية خلال مناقشتها الدعوة التي قدّمتها دولة جنوب إفريقيا ضدّ إسرائيل.
وقد برزت هذه الخشونة المستجدة بالممارسات القاسية التي تعرَّض لها الطلاب المُحتجّون على حرب غزة في جامعات الولايات المتحدة الأميركية. وطريقة تدخُّل الشرطة وقمع الطلاب لم يحصل مثلهما منذ فترة طويلة، وربما منذ ما قبل العام 1968. لأن مبادئ الديموقراطية وحقوق الإنسان وحرّية التعبير عن الرأي كانت مُهابة الجانب أكثر مما هو عليه الحال اليوم. وهذا الأمر قد يُفقد الولايات المتحدة الأميركية عناصر قوة مؤكّدة، لأنها سبق واستخدمت القوة الناعمة وحاربت دبلوماسياً أخصامها الدوليين واتهمتهم بانتهاك هذه الشعارات، وبأنهم لا يحمون حقوق الأقليات، ويقيّدون الحرّيات العامة. وقد حصل هذا بالفعل من خلال السياسة التي اعتمدتها واشنطن في السنوات الماضية تجاه روسيا والصين وبعض دول أميركا اللاتينية والشرق الأوسط.
منظومة القوة الناعمة التي كان للغرب فضل أساسي في بنائها، تتعرَّض لتشوّهات بالغة، وقد تنحصر فاعليتها الدولية جراء بعض المواقف الغريبة التي تتخذها قوى مؤثرة. وهذا ينطبق على انسحاب الولايات المتحدة من مجلس حقوق الإنسان، وسبق ذلك انسحابها من معاهدة روما التي أُنشئت بموجبها المحكمة الجنائية الدولية الدائمة عام 2002، وبعض الجهات الأميركية أطلقت تحذيرات صريحة لقضاة محكمة العدل الدولية، وهدَّدت مدّعي عام محكمة الجنايات كريم خان، لأنه أوصى بإصدار مذكرة توقيف دولية بحق رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يواف غالانت بتهمة ارتكاب جرائم حرب ضدّ الفلسطينيين في غزة، رغم أن خان دان ثلاثة قادة من حركة "حماس" بالتهمة ذاتها أيضاً. والأخطر من كل ذلك شروع الكونغرس الأميركي – وهو أعرق برلمان ديموقراطي في العالم - بإقرار قانون يفرض عقوبات على قضاة محكمة الجنايات الدولية الشجعان.
هذه المؤشرات تُنذر بولوج مرحلة جديدة على المستوى الدولي، لن تكون لمصلحة القوى المتمسِّكة بالسلم وبعلاقات حسن الجوار بين الدول، بل أنها ستشجِّع المتطرفين، وستقوِّض بعض مسارات التعاون والانفتاح لمصلحة عناصر القوة الخشنة.
في المقابل؛ فإن مظاهر التأكيد على أهمية القوة السياسية والشعبية والإعتدال لن تختفِ عن الساحة الدولية، ومن أبرز هذه المظاهر؛ الموقف الجديد لدول أوروبية مُهمّة في اعترافها بدولة فلسطين أخيراً، كما أن التصويت الذي جرى على قبول عضوية دولة فلسطين في الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 10/5/2024 وبأغلبية 143 دولة؛ يؤكّد تمسَّك المجتمع الدولي بقوة الحق، وبالدبلوماسية، كطريق لتحقيق الأهداف، بعيداً من لغة الحرب التي لا تجلب سوى القتل والدمار.