مشكورةً، بادرت منظمات عربية وفرنكوفونية دولية في لبنان، خلال شهري شباط (فبراير) وآذار (مارس) الفائتين، إلى إحياء ذكرى الحاضر رغم الغياب، قديس الصحافة العربية، الأستاذ غسان تويني (1925-2012).
أصداء الفعاليتين بمشاركاتها المتميزة تميّز المتحدثين من رفاقه وزملائه وأهليه ومحبيه، تلقّاها أصدقاؤه الغائبون عن لبنان، الموزعون في كل مكان.
من بين "الكل مكان" اليمن، حيث تلقّى مريدو تويني وأصدقاؤه صدى الخبر عن ذكرى حفيد اليمن الأصيل رائد "الرأي الحرّ والنبأ الأكيد". ما كان الحفيد اليماني غسان تويني "يدّعي وصلاً لا يُقَر"، إذ يُقِرُ اليمن بذاك، لكل أحفاده بلبنان ومنهم "غسان" المعتز بأن "له أصلاً يمنياً" جعله يخصّص له "فصلاً من اهتمامه في إحدى كتبه الفرنسية".
اعتزازه بصلاته وصداقاته اليمنية القديمة جدّد اللقاءات والصداقات بشكل دائم، مع صحفيي "النهار" البارزين واللامعين مختلِفي الطوائف والخلفيات الفكرية، بأصدقائهم اليمنيين على أساس تنوعهم، يواكبون تجدّد ما وصفه الأستاذ تويني "منافسة اليمن للبنان: في حروب أهله ’من أجل الآخرين‘ على أرضه" (...).
تتشابه الحالة اليمنية أو "اليمننة" مع "اللبننة" المتضمنة كتاب "غسان تويني: "الجمهورية في إجازة" في المكتوب عن "مأزق المنطق العربي: لبنان"، والإشارة إلى "فدرالية الميليشيات، ضياع الدولة، فقدان الجيش صدقيته، وما يصطنعه (الآخرون) من حروب من دون تقدير العواقب"، كاشفين بذلك عن "سرّ" مجتمعات العرب بأنها "مجتمعات حرب" من دون حرب، كما ينقل تويني عن مُنح الصلح، وأن تاريخ علاقاتهم البينية "تاريخُ خيبات"، وانتهاج الاقتداء بنموذج التنافر لا الاهتداء بنموذج التعايش!
تقدير تويني لهذا اليمن "القتيل" كلبنان و"نزهة عقل" الأشقياء من أبناء وأشقاء، جعلاه يكشف بين "أسراره الأخرى" عن "السرّ اليماني" الذي زاره في عام 1971، وهو: "عندما ترى الجماهير (اليمنية) في المدن، وتعرف أن ملايين السكان اليمنيين حقيقية، عاملة ومحاربة في آنٍ واحد، تفهم لماذا اليمن كان دائماً وسيظل مصدر خوف للآخرين (لا من الآخرين)، خصوصاً إذا ثمّرت موارده بحرّية وحداثة، أو بالأحرى سُمِح له بذلك (...)".
الفعاليتان، المشار إليهما ابتداءً، تسمحان بمبادرتيهما إلى مناقشة حضور تويني العربي والفرنكوفوني الدولي، أن يُقال هنا: إن احتفاءهما بتويني ليس لأنه جاب آفاق الثقافتين العربية والفرنكوفونية، بل لأن الثقافتين –إن جاز قول ذلك - تشاطرتا أفقه الواسع كمفكر سياسي نهضوي، صحافي ودبلوماسي مثقف، وبرلماني مسؤول سخّر قدراته وطاقاته وموارده وثقافته ولباقته وصحيفته ومؤسسته لخدمة قضيته الأصيلة: لبنان السيّد الحرّ الديموقراطي المستقل والمتسم بالتعايش الخلاّق.
وتجسيداً منه لهذا الاستقلال والتعايش والديموقراطية، جدّد منذ عام 1947 نهج "النهار". "ألّف أخباراً ولحنّها"، فميّز "النهار" بالسبق والتألّق.
نافحت مثلما نافح هو عن الحرّية، معرباً عن احترامه للدولة بامتثاله لقضائها الذي كلّفه غير مرّة، أول الخمسينيات والسبعينيات، دهراً من تقييد حرّيته الشخصية من دون فقدان حرفيته الواعية لارتباط النظام بمصير الوطن الذي يصلح بحفاظ النظام عليه، إلى أن يفقد النظام - أي نظام في أي مكان - معناه وشرعيته متى فرط في الوطن وفرغ "بطن المواطن"، وأهمل القوانين وتخطّاها وسمح بظهور قوى وشريعة الغاب؛ بحسب مخاطبات تويني لمن فقدوا شرعيتهم ووطنهم وأمنهم واستقرارهم "بيديهم لا بيدي عمرو"... وإن كان لأجل "عمرو"!
إلى كونه صحافياً نافذاً في نقده، صديقاً ناصحاً لحكّامه، عمل سفيراً غير تقليدي في فترات حرجة من علاقات لبنان والعرب الديبلوماسية، بعدما انتُخب غير فترة نائباً برلمانياً مدافعاً عن القضايا الوطنية، ومبادراً بعد وزارته الأولى - المستقيل منها سريعاً – في عام 1970، إلى مخاطبة محرّري الصحيفة بـ"مفكرة عمل" تحثهم على التزام "تـأكيد شخصية (النهار) ومبادئها وتكريس استمرارية المؤسسة" من خلال "الفصل بين سلطات" تويني الصحافية والوظيفية، فغدت وظيفته - مع باقي حكومته - مرمى سهام صحيفته!
صحيفته بما صنعت من عهود رئاسية، واحتضنت من مراجع لغوية، وتبنّت من أقلام ذهبية، وكرّست من أسس مهنية، عُرِفَت مؤسسة كبرى تفرّع منها دارُ نشرٍ - جار عليها الزمن فأقفلت مؤخّراً - زوّدت القراء بسلسلة أعمال وآثار تويني المُشبَعَة والمشبِعة فلسفةً وفكراً وتاريخاً وسياسة. وزخرت الدار أيضاً بآثار مطبوعة تخطّت المدار اللبناني إلى الفضاءين العربي والعالمي، عبر مختلف الفنون والآداب والشؤون.
أتاحت منشورات الدار، كما نشرات "النهار"، التلمذة - ولو عن بُعد - على فكر ومدرسة الأستاذ غسان تويني: المدرّس المُلْهِم لكبار صحافيي وناشري وأدباء لبنان، بحسب رواية الأستاذ فؤاد مطر عن "نصيبه من الدنيا"، والدارس المُلْهَم من كبار مفكري وسياسيي وعظماء لبنان، وفق أسرار تويني.
ومن الأسرار أيضاً، اغتنام كل طاقات النهار البشرية المتنوعة لمجابهة ما اعتبره غسان تويني "تحدّياً" موروثاً عن أبيه المؤسس جبران، وهو "عروبة النصارى" مع "مقاومة الطائفية بالوطنية". وبنشاط وتعايش "النهاريين" جميعاً، نجح غسان واكتسب سمات إيجابية أخرى.
بين سماته ومزاياه الأخرى، التي زادت تجربته و"أستاذيته" رسوخاً: "ثقافته العقلانية" المؤسسة على "الانفتاح على الغير واحترام الآخر"، ومن ثم لقاء الجميع، كباراً كانوا أم صغاراً، لينعموا بلحظات "جاذبية مغناطيسية" إلى شخص رائد وفكر نيّر، وملاحظات سديدة وتشجيع ودود وابتسامات ساحرة وتقدير راقٍ لكل ما يُبعث إليه قبيل اللقاء أو يتخلّله، فإن أهديته باقة ورد وكتاباً، تجده شاكِرَك "على الورد كثيراً، وعلى الكتابِ أكثر"، فيُلقِيكَ بثنائه درساً شاملاً عن قيمة الكتاب في الحياة وما ينبغي له.
وكون للكتاب قيمته يحلو الرجوع إليه، لا سيما حين يُكتَبُ بقلم الأستاذ غسان تويني، فتبدو حروفه المصاغة بفائق العناية وفرط الدقة وحلاوة اللغة وحنكة الأسلوب، شاهداً على كيف عاصر تاريخاً حافلاً حتى صار تاريخاً بذاته، تجابهه معارك تجنّب الانتحار فيها أو التسبّب بنوع من الخسران للبنان، وإن تكبّد اغتيال ولده "جبران"، من بعد مآسي فقدان بعض أهليه وبنيه.
برغم مآسي غسان تويني العامة والخاصة، لَفِيَ عزاءه "استمرار صدور النهار بأي ثمن" تحت أي ظرف، فهي "الصادرة وحدها وإن غاب جميع المحررين" بحسب "مفكرة العمل". إضافة إلى عزائه وعزاء محبيه وأصدقائه في ما خلّف من إرثٍ تنويري كبير، جديرٌ بمن يليه الآن من وجوه "توينية" أن تصونه وتضاعف قيمته، فيزيد "النهار" إشراقاً وألقاً متصلاً بما حاكه الجد جبران وطوره الابن غسان وجدده الحفيد جبران، ويمدّ شعاعه الآن الكرام من آل وحفدة غسان، عليه الرحمة وله الغفران.