حميد الكفائي
ربما لم يترك عالم الاجتماع العراقي الراحل علي الوردي أثراً في تلامذته كالذي تركه على تلميذه النجيب إبراهيم الحيدري، الذي غادرنا قبل أيام. لقد عاش الحيدري تسعة عقود باحثاً وأستاذاً في علم الاجتماع، وكانت أفكار الوردي محور انشغالاته وأبحاثه. لم يكن مجترّاً لأفكار الوردي، بل كان مواصلاً ومجدداً لها، فكتب "تراجيديا كربلاء"، و"النظام الأبوي وإشكالية الجنس عند العرب"، وهما كتابان انتشرا في العالم العربي انتشاراً واسعاً.
ولا غرابة في أن يكون الوردي سبباً للقائي الأول بالحيدري وتطور علاقتي الشخصية به لاحقاً، التي تجاوز أمدها ثلاثة عقود. بدأت العلاقة مطلع التسعينيات، عندما رأيت إعلاناً مقتضباً لنشاط ثقافي يحتفي بالمفكر علي الوردي، وكان فحواه: "لقد اعتدنا أن نحتفي بمفكرينا وعلمائنا بعد مماتهم، لكن الواجب يدعونا لأن نحتفي بهم في حياتهم، وها نحن قد قررنا أن نحتفي بأحد أهم أعلام العراق، د. علي الوردي، في حياته".
كنت ولا أزال شغوفاً بأفكار علي الوردي في علم الاجتماع واللغة والأدب والدين والتأريخ، إذ كانت جديدة وجريئة وفاتحة للذهن ومثيرة للجدل، وقد أحدثت ضجة كبيرة في العراق، خصوصاً بين المثقفين ورجال الدين. وعندما رأيت الإعلان، قررت المشاركة في الاحتفاء الذي جرى في ديوان الكوفة في لندن. كان المتحدث الرئيسي في تلك الأمسية هو الدكتور إبراهيم الحيدري الذي تحدث باستفاضة عن علاقته بأستاذه الوردي، وسرد مواضيع كتبه واهتماماته وطرق تدريسه.
وبعد انتهاء النشاط، تحدثت مع الدكتور الحيدري عن الموضوع، وكان حديثاً شيقاً وذا شجون وخصوصاً أننا تذكرنا الأقوال الطريفة للوردي المنتشرة في كتبه. شكرته على جهده في ترتيب الاحتفاء بالوردي وأبلغته أنني لم أكن أعلم بأن الوردي لا يزال حياً حتى قرأت الإعلان عن هذه الأمسية. تبادلنا أرقام الهواتف وعزمنا على تجديد اللقاء. ومنذ ذلك الحين بقينا نلتقي أسبوعياً على الأقل في منزله أو منزلي أو في المقاهي أو أثناء النشاطات الاجتماعية والثقافية.
بمرور الزمن، اطلعت على أفكاره وأبحاثه في المجالات المختلفة، ووجدته باحثاً رصيناً ومخلصاً، وكان النقاش معه ممتعاً ومثقِّفاً. وفي عام 1997 سلمني الحيدري مسوَّدة كتابه "تراجيديا كربلاء"، وطلب مني أن أنقحها له، وقد فعلت على مدى أشهر، وكنت كلما انتهيت من تنقيح فصل منه، ذهبت إلى بيته وناقشته معه، مقترِحا عليه بعض التعديلات.
ومن الطرائف التي رسخت في ذاكرتي هي أننا بينما كنا نتباحث في بعض المواد التأريخية اقترحت عليه بعض التغييرات التي خالفت ما كان قد كتبه. ولما كان الكتاب يتحدث عن التأريخ الإسلامي المختلف عليه بين السنة والشيعة، فإن البحث لا بد وأن يشمل الخلافات بين الطائفتين حول بعض الوقائع التأريخية. وبينما كنا منشغلَيْن في نقاش جاد، فاجأني بسؤال لم أكن أتوقعه منه شخصياً، لأنه يعرف كل شيء عني وعن عائلتي: "هل أنت سني أم شيعي؟"!
أجبته على الفور أنني لا أستطيع أن أصنف نفسي طائفياً، فأنا باحث محايد ولدي أفكاري وقناعاتي الخاصة، ولا تهمني الانقسامات الطائفية، بل لست معنياً بها ابتداءً، وفي رأيي لا يصح أن ينشغل عاقل في هذا الزمان بتلك الخلافات التأريخية العقيمة التي لم تعد لها أي أهمية، ولا يمكن التأكد من دقة المعلومات التي توردها الأطراف المتخاصمة، الساعية لتصحيح أحداث التأريخ.
لم يكن الحيدري يكترث للانتماء الطائفي مطلقاً وأبداً، وأعتقد بأن سبب سؤاله هو أنه رأى حياداً استثنائياً في تقييمي للكتاب. ظللنا نتبادل الأفكار والآراء طوال العقود الثلاثة الأخيرة، وقد أطلعني على الكثير من أبحاثه، كما أطلعني على فصول من بحثه القيم "النظام الأبوي وإشكالية الجنس عن العرب"، وقد شكرني في مقدمة الكتاب على دوري في التنقيح وإبداء الرأي. كما شكرني بخط يده في النسخة التي أهداها لي من كتاب "تراجيديا كربلاء".
ينتمي إبراهيم الحيدري إلى عائلة بغدادية عريقة لها آثار اجتماعية وثقافية تمتد مئات السنين، بينها المكتبات والمراكز الدينية. "الحسينية الحيدرية" مثلاً، شيدها جده الأعلى قبل قرنين من الزمن وكانت مدرسة للغة العربية والفقه، وقد سمي الحي بـ"محلة الحيدرية" على اسم المدرسة، وكذلك لوجود منازل عدد من أفراد العائلة فيه.
درَس الحيدري علم الاجتماع على أصوله في جامعة بغداد، ثم في جامعة فرانكفورت، حائزاً على شهادة الماجستير، ثم الدكتوراه من جامعة برلين الغربية. وقد درَّس مادة علم الاجتماع في ألمانيا والعراق والجزائر. اغترب عن بلده منذ عام 1979، بعدما مارست السلطة القائمة أساليب قمعية للتضييق على حرية الرأي والفكر، ولم يعُد إلى العراق حتى رحيله، سوى بضعة أيام لحضور مؤتمر علمي عام 2008.
وبالرغم من أن الحيدري لم يكتب في السياسة قط، ولم يطرح أراءً جدلية كأستاذه علي الوردي، ولم يبدِ رأياً سياسياً في أي من كتاباته ومحاضراته، بل كرس نفسه لعلم الاجتماع فحسب، فإنه لم ينسجم مطلقاً مع النظام الجديد في العراق، الذي تأسس بعد عام 2003، تماماً كما فعل مع نظام صدام حسين الذي سبقه.
ويؤمن الحيدري إيماناً عميقاً وراسخاً بالدولة العصرية التي تصون الحريات وتحترم الخصوصيات وأساليب الحياة المختلفة، وتساوي بين مواطنيها وفق القانون. وما دام العراق بعيداً عن هذا النموذج، بقي الحيدري بعيداً عنه. وأحسب أن مئات من المثقفين والمفكرين العراقيين يحذون حذوه في هذا التفكير، فالعراق تلقى من القمع والاستبداد أكثر من طاقته على التحمل، ويحتاج الآن إلى مساحة واسعة من الحرية كي يلتقط أنفاسه ويلتحق بركب التطور العالمي.
لم أتوقف عن التواصل مع الحيدري بعد انتقالي إلى بغداد عام 2003، وأتذكر أنني اتصلت به من هناك لمعرفة أخباره، وإذا به ينصحني بوضوح وقوة بألا أذهب بعيداً في تأييد النظام الجديد، الذي قال إنه لا يستحق التأييد الذي منحته إياه، مضيفاً أنني سأفقد الحيادية التي تميزت بها سابقاً. أجبته بأنني أعرف مثالب النظام الجديد، ربما أكثر من كثيرين، لكن منصبي كناطق رسمي لمجلس الحكم، يحتّم عليَّ ألا أعارضه علناً أو أبدي رأياً ناقداً، فهذا يناقض مبدأ إشغالي للموقع، وفي كل الأحوال فإنني أتفق مع مساعي المجلس لانتزاع السيادة بالطرق السلمية من سلطة الاحتلال الأميركي، فلا سبيل آخر مجدياً أو ممكناً غيره، وطمأنته بأنني لن أخالف ضميري تحت أي ظرف. ولحسن حظي، فإنني لم أمضِ طويلاً في ذلك الموقع.
حَظِيَ الحيدري طوال حياته باحترام وحب كل من عرفه، من كل ألوان الطيف العراقي الشديد التنوع، وهو أمر لم يتوفر لكثيرين من المثقفين والمفكرين، الذين حُسِبوا على هذا الطرف أو ذاك. وقد تجلى هذا الحب والاحترام في مجلس تأبينه، إذ اجتمع فيه العراقيون من كل التوجهات والمذاهب والأديان.
لقد عاش الحيدري رفيعاً في أخلاقه ومتواضعاً في تعاملاته ووديعاً في منظره ومتسامحاً في سلوكه، ورغم علمانيته ووضوح أفكاره الداعية إلى دولة عصرية مدنية، فإن أفكاره لم تُثِر غضب أحد، وذلك لهدوئه وسموه واحترامه الرأي الآخر، وقدرته على مخاطبة الجميع دون استفزاز مشاعرهم.
* كاتب عراقي