ارتفعت معدلات القلق والغضب في مصر والسودان، بإعلان إثيوبيا استعدادها لبدء الملء الخامس لسد النهضة على النيل الأزرق، الشهر المقبل، دون تنسيق مع البلدين، إذ استمرت المفاوضات بين الدول الثلاث 10 سنوات وانتهت في كانون الأول (ديسمبر) 2023 دون التوصل لأي تفاهمات بشأن السد. وتعتزم أديس أبابا حجز 23 مليار متر مكعب من المياه هذا العام، للوصول إلى 64 ملياراً بخزان السد الذي أنهت أكثر من 95 بالمئة من إنشاءاته وتبلغ سعته الكلية 74 مليار متر، ما يعد نجاحاً إثيوبياً في تحقيق الاستفراد بالتحكم بمياه النيل شريان الحياة لمصر والسودان، اللتين تعتبران السد كابوساً مفزعاً وتهديداً وجودياً!
وضع حرج
كشفت طرو ورق شفراو رئيسة قسم التخطيط بهيئة الكهرباء الإثيوبية عن نجاح الخطط المرسومة لتشغيل بعض توربينات السد؛ لافتة إلى أنه بامتلاء بحيرة السد، وتشغيل التوربينات الـ 11 سترتفع قدرة البلاد على توليد الطاقة بنسبة 83 بالمئة.
تقول إثيوبيا إن مصلحتها تقوم على مبادئ الربح للجميع لا النزاعات، لكن هذا القول يتناقض بشكل صارخ مع تحركاتها أحادية الجانب في ملف السد، ويجري الملء الخامس، مثل أربعة سابقة، دون تنسيق مع دولتي المصب. ينشغل السودان بحرب أهلية متفاقمة بين الجيش السوداني وميليشيا الدعم السريع، التي تساندها إثيوبيا - ما يجعلها طرفا مستفيداً من إطالة أمد الحرب في السودان - وتجد مصر نفسها في وضع حرج للغاية، تحيط بها الأزمات المشتعلة من جميع الجبهات، في غزة وليبيا والسودان وشرق المتوسط، وتعاني أزمة اقتصادية طاحنة. ترى القاهرة تصرفات أديس أبابا "الأحادية" خرقاً لاتفاق المبادئ بين الدول الثلاث عام 2015، وتشهد مصر حالياً عجزاً كبيراً في المياه الواردة، ضمن حصتها من نهر النيل البالغة 55 مليار متر، بسبب الإجراءات الإثيوبية استعداداً للملء الخامس.
في نيسان (أبريل) الماضي، أكد هاني سويلم وزير الموارد المائية والري المصري - أمام مؤتمر بغداد للمياه - أن التحركات الأحادية الإثيوبية بشأن سد النهضة تشكل خرقاً للقانون الدولي، واستمرارها خطر وجودي على أكثر من 150 مليون مواطن في مصر والسودان، مبيناً أن مصر تواجه وضعية ندرة مائية فريدة من نوعها دولياً، إذ تتصدر قائمة الدول الأكثر جفافاً في العالم، نصيب الفرد من الموارد المائية 50% من خط الفقر المائي العالمي، وتعتمد حصرياً على مياه النيل الذي يوفر 98% من احتياجات البلاد، يذهب أكثر من75% منها لتوفير الأمن الغذائي عبر الزراعة، مصدر الرزق لأكثر من 50% من المصريين.
السياسات الأحادية
وخلال كلمته في المنتدى العالمي للمياه، في بالي بإندونيسيا، قال سويلم إن مصر أكدت مراراً أهمية الالتزام غير الانتقائي بقواعد القانون الدولي للتعاون والتشاور، وتجنب التسبب في ضرر بإدارة الموارد المائية العابرة للحدود، وعليه تحذر من مغبة السياسات الأحادية التي تتمثل في استمرار بناء وتشغيل سد عملاق على النيل - في إشارة لسد النهضة - بما يخالف القانون الدولي، وبدون تقديم أي دراسات فنية تفصيلية بشأن الآثار الاقتصادية والاجتماعية والبيئية العابرة للحدود على دول المصب، وهي الممارسات التي من شأنها أن تهدد استقرار المنطقة بأسرها.
عالمياً، يعد الغذاء المحور الأكبر للاستخدامات المائية، ما يضع العديد من الدول أمام تحديات مركبة لتوفير الاحتياجات الأساسية من المياه. تلك الحالة أشد سطوعاً في مصر، تواجه تحديات الندرة المائية والغذاء وتغير المناخ، وتأتي السياسات الإثيوبية لتضع على كاهل الدولة والشعب المصري ضغوطاً غير قابلة للاحتمال. سيضطر معظم سكان الريف، ممن لا يعملون في قطاع الخدمات، إما إلى القيام بزراعة الكفاف على قطعة أرض صغيرة، والاكتفاء بمستوى معيشة أقرب للعصور الوسطى، أو الزحف نحو المدن. يصبح الأشخاص ذوو المهارات المتدنية غير ضروريين بالريف في السنوات المقبلة، دون أن يتمكنوا من العثور على عمل في المدن، ما يفاقم مشكلة البطالة إلى مستويات خطيرة، ويهيئ الأسباب للانفجار الاجتماعي، كما حدث في "25 يناير". لذلك تعتبر مصر السيطرة الإثيوبية المطلقة على النيل الأزرق دون اتفاقيات تهديداً وجودياً. بدوره، يخشى السودان تأثر سد "الروصيرص"، أحد أهم مصادر الري والتوليد الكهربائي بنقص المياه الواردة من إثيوبيا، إلى جانب التأثيرات المفزعة على القطاع الزراعي في بلد يعاني حروباً ومجاعات.
خيارات أخرى
حتى الآن فشلت "كل المبادرات" الرامية للتوصل إلى حل سلمي لأزمة سد النهضة، فالمفاوضات متوقفة، كما تراجع الاهتمام بالقضية لدى الرعاة الدوليين، كالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والاتحاد الإفريقي؛ وضع تراه إثيوبيا مريحاً ومحققاً لأهدافها، تواصل تعلية السد وحجز المياه كل موسم أمطار، بقرار فردي دون أي اكتراث بمصالح دولتي المصب أو ردود فعلهما. السودان غارق في مشكلات تبدو بلا نهاية، تشارك أديس أبابا في إذكائها، ما يُفقد القاهرة السند السوداني الذي هي في أمس الحاجة إليه، من ثمّ تتحرك مصر على جميع الاتجاهات لتحقيق السلام في السودان، وكشف زيف المغالطات الإثيوبية، محاولة تهيئة المجتمع الدولي لانتهاج أي خيارات أخرى غير تفاوضية، ضد إثيوبيا باعتبارها "دولة مارقة" في النظام الدولي، ومن قبل حذر الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي من أن المساس بحق مصر في مياه النيل سيؤدي لحالة من عدم الاستقرار في المنطقة بأكملها، ويترك الباب مفتوحاً أمام كل الاحتمالات، وأضاف: "لا أحد بعيد عن قوتنا".
ومن بين الأوراق التي تلوح بها القاهرة في وجه أوروبا ورقة اللاجئين، يعيش بأرضها 9 ملايين لاجئ يمثلون ضغطاً شديداً على مواردها المائية والمالية، ومن الممكن أن يُدفع بهم إلى جنوب أوروبا، ما لم يقم الاتحاد الأوروبي بالضغط على إثيوبيا للوصول لاتفاق ملزم بشأن تشغيل السد ويضمن حصة مصر والسودان.
لا ترغب مصر في صدام عسكري مع إثيوبيا، لكنها تستعد لكل الاحتمالات، تحاول تجنب الصدام، أو تأجيله إلى حين؛ وفق حسابات دقيقة للوضع الاقتصادي والظرف الدولي وموازين القوى ومسرح العمليات وامتلاك القدرة على إنهاء الحرب وليس على بدئها. لا تستطيع مصر، مهما حدث، أن تترك النيل سر وجودها وشريان حياتها أسيراً لإثيوبيا.