يعيش العمق الإسرائيلي في الآونة الأخيرة على حافة الهاوية إزاء التوتر والصراع بين التيار اليميني المتطرّف، الذي يعمل على تغيير محدّدات هوية الدولة ومعطياتها الاجتماعية، ويدين مظاهر الحياة العامة والسياسات الداخلية والخارجية، وبين التيار العلماني الليبرالي الذي يستهدف فصل الدين عن شؤون الدولة، ويرفض اعتماد الشريعة اليهودية مصدراً للدستور، حفاظاً على الدولة وفلسفتها الاقتصادية والسياسية.
يتجلّى احتدام الصدام في دعوات الفصل بين الرجال والنساء في الحافلات والأماكن العامة، وتزايد عدد الطلبة الذين يدرسون في "المدارس الدينية" غير التابعة لوزارة التعليم الإسرائيلية (تتبع أغلبيتها الأحزاب الدينية المشاركة في الحكومة)، بنسبة وصلت إلى 75 في المئة، بينما يدرس 3.5 في المئة فقط من الطلاب في مدارس تتبع وزارة المعارف الإسرائيلية، والباقي في مؤسسات تعليمية خاصة، وفق إحصائية لجنة الخارجية والأمن التابعة للجيش الإسرائيلي في أيار (مايو) 2023.
ساهم الائتلاف اليميني المتطرّف في زيادة حدّ الاستقطاب والانقسام السياسي داخل إسرائيل، من خلال فرض هيمنته على مقاليد سلطة دولة الاحتلال، ورغبته في صوغ دستورٍ يعبّر عن روايته الدينية، من خلال إجراء حزمة من التعديلات القانونية على "الركائز الدستورية"، وتقليل اختصاصات "محكمة العدل العليا" ذات التوجّه اليساري، وعرقلة دورها في أي محاولة مستقبلية لتعديل صوغ الدستور، فضلاً عن محاولاته تمرير مشروع قانون إعفاء "الحريديم" (اليهود المتطرّفين) من التجنيد الإجباري، تفرّغاً لدراسة النصوص التوراتية.
سياسة فرض الأمر الواقع التي ينتهجها التيار اليميني المتطرّف جعلت المؤسسات الأمنية والعسكرية تطلق تحذيرات حول مخاطر تمرير قانون الإعفاء الشامل لـ"الحريديم" من التجنيد الإجباري، في ظل ارتفاع نسبة طلاب المدارس الدينية، ومن ثم التخلّي عن تجنيدهم يؤدي إلى تفاقم النقص في جنود الجيش النظامي، فضلاً عن اعتبارها أن الصراع الثقافي القائم بين المجتمع الأرثوذكسي والمجتمع الإسرائيلي حول تجنيد "الحريديم" انتقل عقب عملية "طوفان الأقصى"، من كونه سجالاً فكرياً ثقافياً إلى نقاش وجودي في إطار المعركة الدائرة حالياً بين حركة "حماس" والجيش الإسرائيلي.
استحوذ التيار اليميني المتطرّف، الذي يشكّل نحو 13 في المئة من الإسرائيليين وفق مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي، على أحزاب عدة، مثل حزب "البيت اليهودي" في عام 2008 بزعامة نفتالي بينيت، وحزب "القوة اليهودية" في عام 2012، وحزب "الصهيونية الدينية" بزعامة بتسئليل سموتريتش، فشاركوا في الحكومة الائتلافية مع بنيامين نتنياهو في انتخابات 2022، وفازوا بمناصب وزارية مثل وزارتي المالية والأمن القومي، ما ضَمَن لهم توظيف مؤسسات الدولة في تنفيذ مشروعهم الفكري، في تحدٍ كبير للتيار العلماني.
في إطار المحاولات المتكرّرة لتجنيد"اليهود المتطرّفين، وضع الجيش الإسرائيلي برامج تأهيلية عدة تعمل على دمجهم في الحياة العسكرية، مثل تشكيل الكتيبة "نيتسح يهودا" (ناحال حريدي) في عام 1999، التي تحولت إلى وحدة عسكرية لها بُعد ديني سياسي، ومقصد للمستوطنين المتطرفين، بحسب صحيفة "هآرتس"، فضلاً عن كتيبة "الحرس الوطني" التي تعمل على تجنيد الشباب الأرثوذكسي المتطرّف، وتتبع مباشرة وزير الأمن القومي المتطرّف إيتمار بن غفير.
على الرغم من السجال الدائر حالياً، ثمة تحولات في عملية انخراط "الحريديم" في المجتمع الإسرائيلي، في ظل حراك اجتماعي يدور في فلك "الحركة الصهيونية"، مفرزاً ما يُعرف بجماعات الصهيونية الدينية أو "الحردليم"، وتعني "حريدي متدين قومي"، والتي حولت تزمتها الديني إلى تطرّف قومي، وصنعت من المعتقدات اليهودية، مثل المسيانية وأرض الميعاد وشعب الله المختار، برنامجاً سياسياً، مستهدفة من خلاله احتلال الجيش الإسرائيلي من الداخل عبر التدفق إلى فرق النخبة العسكرية، والتدرج إلى الرتب الرفيعة، والهيمنة على مراكز مؤسسة الحاخامية العسكرية التابعة للجيش.
إن الحديث عن "انتفاضة حردلية" داخل المؤسسات العسكرية والأمنية الإسرائيلية يعكس تغيّرات في تركيبتها ومفاصلها الداخلية، من منطلق إدراك الأبعاد الأيديولوجية المتعلقة بالوجود الإسرائيلي، بعيداً عن تمرّد اليهود المتطرّفين على التصورات العقائدية التي تتضمن الحفاظ على الهوية التوراتية والوصايا الدينية، أو التخلّي عن مطلبهم الدائم في تحرّرهم من الخدمة العسكرية الإجبارية.
ساهمت المزاوجة بين الدين اليهودي كتعاليم شرعية، والصهيونية كفكرة علمانية، في تفكيك المعتقد الرائج عند اليهود الأرثوذكسيين "الحريديم" بأن الدولة صناعة إلهية على يد "المخلّص" وحده، وإعادة النظر في مفاهيم الدولة والجيش والاستيطان كقيم قومية أو جزء من مرتكزات الأمن القومي الصهيوني، واعتبارها "أدوات مقدّسة"، تساهم في تحقيق أهم مرتكزين فكريين لدى الصهيونية الدينية: الشعب المختار وأرض الميعاد.
توغّل اليهود المتطرّفون في أعماق مؤسسات الجيش الإسرائيلي ساهم في شرعنة مبطّنة لإرهاب الدولة وعنفها، في سياقات ذات مدلولات عقائدية وصياغات توراتية، لتبرير التلذذ بالقتل الجماعي، على أيدي العصابات الصهيونية سواءً اليسارية الليبرالية أو اليمينية المتطرّفة، في إطار من الخلل النفسي والمعقّد.
سيظل المجتمع الإسرائيلي مستغرقاً في صراعاته الداخلية، إثر تفاقم دوامة التأرجح بين مفاهيم جدلية الديني والعلماني، وتقاطعتهما السياسية، في ظل هيمنة التيار اليميني المتطرّف على مراكز صنع القرار في العمق الإسرائيلي، وقدرته في استغلال السياقات التاريخية، وتغيراتها الاجتماعية والاقتصادية، وزيادة فرص تأثيره في المجال العام.