تدخل القضية اليمنية مرحلة جمود واضحة، ولا يعني ذلك توقف المواجهات العسكرية الواسعة، بل هو توارٍ على مستوى الاهتمام العالمي والإقليمي. فلم تعد أخبار التطورات على الأرض تحظى بصدارة الاهتمام العالمي والعربي!، لتبقى في انتظار العودة إلى دائرة الضوء.
فالمنطقة كلها غارقة في بحر من الهمّ يتجاوز نبع الآلام اليمنية، والعالم مضطرب بحيث لا وقت له لسماع أنّات المقهورين في بلد السبئيين.
في هذا الأسبوع، حدثت تطورات مهمّة على ثلاثة أصعدة في اليمن، هي ذات أثرٍ محلي بالغ الأهمية، وسيكون لها تبعاتها على مستوى المشهد المستقبلي لكل اليمن: الأول، قرارات مهمّة للبنك المركزي اليمني؛ والثاني، ما شهدته صنعاء من إختطافٍ لعددٍ واسع من المواطنين وناشطي المجتمع المدني والموظفين السابقين لدى سفارات أجنبية ومنظمات دولية؛ والثالث، الاتفاق على فتح معابر في الطريق الرئيسية لمدينة تعز المحاصرة من ميليشيات الحوثي منذ 9 سنوات.
كل حدثٍ من تلك الأحداث هو في صدارة الاهتمام الشعبي، وله الكثير من الأثر داخلياً، لكن من يسمع الآن بمعاناة الشعب اليمني الصابر هم قلةٌ مُتعبةٌ بعيدةٌ أيضاً عن دائرة الضوء، فالعالم يتخبّط بمشاكله أيضاً.
وبالعودة إلى تلك التطورات اليمنية المهمّة، يمكن القول إن إجراءات البنك المركزي اليمني هي خطوة متأخّرة منذ 4 سنوات بحسب خبراء الشأن الاقتصادي، حيث منع الحوثي آنذاك تداول العملة الوطنية بحجة أنها طبعةٌ جديدة، وسار لسنواتٍ في طريقٍ واضحٍ معلناً إجراءات انفصالٍ مصرفيٍ كامل، بدءاً بسنِّ قانون خاص بمنع الأرباح البنكية أو ما أسماه منع النظم الربوية، وانتهاءً بالسطو المباشر على أموال المودعين. وذلك بعد أن انتهى من السطو على كامل مدخرات البنك المركزي اليمني في صنعاء، بحيث لم يأتِ قرار الحكومة الشرعية بنقل صلاحيات البنك المركزي اليمني إلى عدن إلّا بعدما خسر البلد كامل احتياطه النقدي، واستفاق الناس على فاجعة أن البلد صار من دون نقد واحتياط نقدي.
لذا، فإن ما أُسميت بحرب البنك المركزي جاءت متأخّرة، وبعد أضرارٍ ليس من السهل جبرها. مع ذلك، قبل الناس بالخطوة من باب القول "أن تأتي متأخّراً أفضل من ألّا تصل مطلقاً".
الجانب الثاني: عملية اختطاف واسعة طالت عشرات الأشخاص رجالاً ونساءً بتهم تثير العجب، وهي أنهم في المجتمع المدني، أو عملوا موظفين في منظمات وهيئات ووكالات الأمم المتحدة وفي سفارات أجنبية، وبالذات السفارة الأميركية في صنعاء وهي مغلقة منذ عام 2014، ومن كان يعمل فيها أصبح اليوم موظفاً سابقاً أو متقاعداً مُنهكاً على المعاش. لكن الجماعة التي أرادت إظهار ملهاة للناس على حساب مأساة بشرٍ لا حول لهم ولا حظ، عمدت إلى إخراج فيلم هوليوودي عجيب، يقول إنها قبضت على خلية تجسس أميركية- إسرائيلية تعمل منذ عقود، نعم عقود وليست سنوات، والأدلة التي تقول إن الجهاز الأمني للميليشيات حصل عليها هي مجرد صور ملفات الموظفين، وفيها شهادات تقييم عملهم من رؤسائهم السابقين في العمل، وكتب فيها أنهم مثلاً مثابرون وجيدون، وغير ذلك من كلمات الاستحسان والإطراء، لتصبح استمارة التقييم الوظيفي الداخلي تلك دليل انتماء إلى الاستخبارات العالمية. والأدلة الأخرى تثير الشفقة وتظهر مدى البؤس الذي ينتظر بلد الإيمان، وهي تهم مثل تنفيذ برامج في الصحة الإنجابية أو الوعي بحقوق المرأة، أو دورة في الزراعة أو التربية، أو حتى الزائر الدولي لأميركا، ولنا أن نتخيّل القهر الذي حلّ بهؤلاء من جبروت سلطة القمع الرهيبة. ويعكس هذا الأمر حقيقة الحوثي وجوهر تفكيره الذي يرى في كل شيء مؤامرة، وكل الناس أعداء بمن فيهم بعض من ناصره وتشيّع له.
القبضة الأمنية هي الأساس، وجوهر الفكرة لديه إحاطة المجتمع بدائرة قمع رهيبة، وتعزيز سلطة الاستبداد بوهم أن ذلك يضمن استمرار نظام القطيع للحاكم المستبد. فالجماعة تُمارس التعذيب والاحتجاز التعسفي والإخفاء القسري، ومنذ الوهلة الأولى عمدت إلى تكثيف ملحوظ وسريع للسلطويّة الاستبداديّة.
وخلال عشر سنوات، قام الحوثي بقمعِ الأطراف السياسية بما فيها التي تعاونت معه بشدّة، بل بنى "دولة بوليسيّة" بامتياز، وصار القمع حياة معاشة ممنهجة، شدَّدت من المراقبة الإلكترونيّة التي صارت على نطاقٍ واسع، كما ضيّقت الخناق على وسائل الإعلام وعملت على إسكات جميع الأصوات المنتقدة. أو حتى المشتكية من سوء المعيشة.
ذاك هو مجمل الصورة التي انتجت الفيلم الهوليوودي العجيب، وأظهرت عدداً من المعتقلين في الأقبية منذ سنوات، وهم يعانون آثار التعذيب وأمراضاً واضحة من الجلطات إلى فقدان التركيز، ليقولوا كلاماً مكتوباً فيه إمعان بالقهر لم يسبق له مثيل. ذاك حدثٌ مؤلمٌ إنسانياً، ومخجلٌ أن تتناقله وسائل إعلام عربية على أنه إنجاز أمني، في تشجيع للفاشية غير مفهوم. والأكثر خجلاً، هو صمت الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، وحاملي المباخر من مؤيدي الاستبداد ذوي الصورة الرمادية.
أما حدث فتح معابر لتعز المحاصرة، فهي قصة تحكي عن وصول الإنهاك مداه لدى كل المؤسسات، وتظهر مدى صمود المجتمع، وتبرز أن حل قضية تعز وإعادة الاعتبار لدورها هو مفتاح الاستقرار في اليمن. وتلك قصة أخرى، بحاجة إلى وقفة أوسع.
وللعيد وقفة الشوق!!
للعيد وقفة الحجيج، ولنا وقفات الشوق على أبواب مدينة لا نعبرها بل تعبرنا.
هذه الجموع لآلاف المركبات حاصرها الشوق عشر سنوات، فرضت ميليشيات الرعب قبضتها البوليسية على منافذ الهواء ومنابت الريحان الذي يزهر في ربيع تعز.
وتفتح اليوم مشاقر ورد ومشاعر من حنين في قيض الصيف.
فُتحت كوة في جدار الحصار الأسوأ في تاريخ الصراعات، فاندفع سيل البشر يعانق المدينة المكتظة بالحزن والفرح!
ظنّ قادة الحصار، وكل الظنّ إثم هنا، ظنوا أن فتح جزء من الطريق سيعمل على خروج الناس وهروبهم من مدينتهم، وجحيم الحصار، فإذا بالناس تعود سيرتها الأولى، وتكسر حصار الخوف وتأتي جموع لا آخر لها إلى المدينة المكتظة بالحزن والفرح، لترمي أحزانها على بوابة الحوبان، وتشعل قناديل فرحها على مآذن الأشرفية والمظفر، تتنفس الحرّية والمحبة في أزقة باب موسى وأرصفة شوارع التحرير وسبتمبر والعواضي وعبدالناصر.
نافذة العبور الصغيرة التي فُتحت بين شطري مدينة تعز منذ أمس الأول لم يُحصر نورها في محيط تعز التي فُرض عليها حصار الموت منذ عشر سنوات، بل ظهر مشرقاً على كل اليمن.
عادت رايات الجمهورية زاهية بعد طول ذبول، وصدحت أغاني الوحدة بعد طول قطيعة، وضجّت المآذن بأصوات المحبة بعد ضجيج مدافع الحقد.
تلك أهمية تعز وقضيتها، مدينة تنتصر للوطن وتصنع الحياة، وتبقى جسر محبة للجميع.
وإذا أردنا البدء بصنع سلام دائم، فهذه بوابته وأول طريق المهد.