تستند أكثر الكتابات التاريخية، خصوصاً تلك التي تدرس مراحل تطور المنطقة، ولبنان خصوصاً، مند بداية القرن التاسع عشر، إلى الكتابات الصحافية التي تشكل ثبتاً للأحداث بقلم رؤساء تحرير الدوريات وكتّابها الرئيسيين، أو إلى ما كانت تجريه من تحقيقات ومقابلات وتغطيات وما تنشره من أخبار وآراء قراء، إضافة إلى البيانات والمواقف التي تعبر عن توجهات الفرقاء المحليين، وتلك التي تتعلق بمواقف الخارج وضغوطه على الحالة اللبنانية، بدءاً بالسلطة العثمانية ومرحلة نظام المتصرفية (لبنان الصغير)، ومنها إلى مرحلة ما بعد حرب سنة 1914 وبداية النفوذ الغربي والانتداب الفرنسي حتى الاستقلال 1943، مروراً بإعلان "لبنان الكبير" عام 1920، وما استتبعه من مواقف تحررية.
فالصحافة اللبنانية، المحلية والمهجرية، شكلت ذخراً معرفياً غنياً ودقيقاً للمعلومات حول الأحداث في تلك الفترة، وتحديداً منذ إعلان الدستور العثماني عام 1908 وحتى ما بعد إعلان لبنان جمهورية لها دستورها عام 1926.
والباحث في أصول الجرائد اليومية والدوريات الشهرية التي صدرت في تلك الحقبة، يتكون لديه كمٌّ وفير من الوثائق الموثوقة، أو الوثائق الخام التي يمكن التحقق من صحتها وإجراء دراسات مقارنة حولها للتأكد من صحة كل جزئيات المعلومات التي تتضمنها ودقتها. فالكثير من الصحف التي كانت تصدر متزامنة، كانت تؤرِّخ الأحداث كما تقع، غير أنه كان لكل جريدة رأيها ونظرتها التقويمية والنقدية لكل قضية أو موضوع يتم طرحه أو الإعلان عنه ونشره.
إن الكتابات الصحافية والمواضيع والصور والوثائق التاريخية التي تتضمنها مجلدات الصحف والمجلات، هي مصدر مؤكد لكل ما يتعلق بفترة ما قبل إعلان "لبنان الكبير" إلى ما بعد الاستقلال، وأفول الاحتلال والانتداب وبروز الشعور بالقومية اللبنانية ونمط التفكير العروبي الرافع شعار "لا شرق ولا غرب"، بل لبنان ذو الوجه العربي والمحافظ على خصوصياته الحضارية المكفولة من الغرب وبموافقة الدول العربية المؤثرة وذات الثقل النوعي في تشكيل المرجعيات القومية للمنطقة.
واستناداً إلى ما عاينت من أعداد صحف ومجلات خلال إعدادي أطروحتي حول "لبنان الكبير في الصحافة المهجرية"، تبين لي أن الكثير من المواد التاريخية المهمة والمهملة، لم تلقَ نصيبها الوافي من الدرس المعمق والبحوث العلمية المقارنة، بدليل أن بعض ما نُشر في الصحف ذات التوجهات السياسية المختلفة، يعكس الواقع المتنافر بين الأحزاب والقوى الفكرية المطالبة بالاستقلال والتغيير والتحرر. فليست كل الصحف كانت ذات توجه متوافق حيال القضايا المفصلية والحادة، طبقاً لرأي صاحب الجريدة الذي كان يسوِّق لبناء (رأي خاص متبوع) يلتحق به (الرأي العام التابع). وهذا ما بدا جلياً في المقاربات الصحافية والتدوينات التي واكبت المؤتمرات واللقاءات والنقاشات الممهدة لإعلان "لبنان الكبير".
إن كتابة التاريخ الدقيق ووجوبية التأكد من عناصره هما مسؤولية تتكامل فيها العناصر التالية:
أ- العنصر البحثي و التدقيقي.
ب- العنصر الوطني و الإنساني.
ج- عنصر الموضوعية والحيادية العلمية.
وهذا التكامل بالمسؤوليات، يفرض على المؤرخ واجبات الحرص على كشف (المجهولات) وتحويلها إلى (معلومات) مؤكدة، بما يعني إبراز الحقائق الكاملة العناصر والبناء عليها في أي تحليل ارتكازي، وهذه الخاصية المعرفية هي التي تميز بين ثلاثة أنواع من الكتاب التدوينيين:
1- كاتب التاريخ، وهو مدوِّن المذكرات، من موقعه كمراقب أو كشاهد على الحدث ومتفاعل معه. والمذكرات تعكس غالباً نرجسية كاتبها، وتستوجب النظر إليها بعين الناقد العارف والموضوعي.
2- الصحافي، من حيث هو مؤرِّخُ اللحظة من وجهة نظره الخاصة ورأيه لا يُبنى عليه إلا بعد التدقيق والمقارنة.
3- المؤرِّخ العلمي الذي يتحمل مسؤولية قراءة الأحداث وبحث مضامينها والتدقيق في جزئياتها واعتمادها مصدراً موثوقاً لفهم أسباب نشوء تداعيات أي حدث ذي تأثير على المجتمع عامة أو على جماعة من الجماعات المكونة للوطن.
هذه المعايير الناظمة لأخلاقيات البحث التاريخيّ، يمكن أن تشكل ضماناً لدقة مهمة المؤرِّخ في ضبط المفاهيم وأصول تقديم مادة تاريخة موثوقة يُستندُ إليها في كتابة التاريخ الوطني.
وتوازياً مع الاهتمام بتحصين عمليات التأريخ وتركيز الجهود لصوغ نصوص مصانة علمياً ومحمية معرفياً، نرى وجوب حماية الكتابة التاريخية، وحصر اعتمادها بالباحثين الثقة، وذلك منعاً لإثقال تاريخنا بكتابات ارتجالية بعيدة عن الاحترافية والعلمية .
تدفع هذه المقاربة لوظيفة المؤرِّخ ومسؤوليته الوطنية والعلمية إلى أن نطرح فرضية عمليات إغراق التاريخ اليومي بكتابات صحافية وتدوينات ليست من التاريخ بشيء، بل هي أشبه بمواقف منبرية وتسريبات وتشويهات ضاربة للصدقية التاريخية الصحيحة. وهذا ما يجب تجنبه في عملية ملاحقة الأخبار في إعداد الصحف .
فالاستقلالية التاريخية مرتبطة بالاستقلالية الصحافية في كثير من وجوهها. وهذا ما يتطلب إقامة التوازن العلمي بين مضامين الصحف كمواد خبرية غير ذات معيارية دقيقة، وغرضية صاحب الجريدة وإدارة تحريرها وهدفهما وإلّا نكون أمام عملية رصد لآراء كتّاب الصحف وليست عملية تأريخية خالصة .