النهار

يا فتّان!
غاندي المهتار
المصدر: النهار العربي
في كل مرّة، يعود كبار القوم اللبنانيين إلى نغمة "إثارة النعرات الطائفية" لتكون الشمّاعة التي يعلّقون عليها تخويفهم الناس من التغيير، لأنهم هم أنفسهم من يدسّ النعرات ويوقظ الفتن، لأسباب صار الحديث عنها نافلاً.
يا فتّان!
(تعبيرية)
A+   A-
هيا بنا نتعايش ما دام دستورنا اللبناني يحثّنا نحن اللبنانيين على تكريس العيش المشترك والوحدة الوطنية، وما دام قانوننا اللبناني يُجرّم إثارة النعرات الطائفية وإيقاظ الفتنة التي كلما ذكرها ذاكرٌ ألحقها بمعزوفة "النائمة.. لعن الله من أيقظها".
 
إن كان ثمة ما يوحي بأننا لسنا "متعايشين" في لبنان، فليس مرورنا، على اختلاف أجيالنا ومشاربنا، بحروب تتكرّر كل عقد ونيّف من الزمان، تبدأ بمذابح طائفية وخطفاً على الهوية ومحاور قتال وتنتهي بـ "تبويس لحى" ومحاصصات، إنما إصرارنا "الديماغوجي" الصفيق على أننا شعب واحد في وطن واحد، وأننا "كلنا للوطن" هذا.
 
بالضبط. كلمة السرّ في تفرّقنا هي "كلنا للوطن" إياّها التي ترد سبع مرات "عجافاً" في أهزوجة رشيد نخلة التي اتخذناها نشيداً وسلاماً وطنيين. سبع مرّات، أو 14 كلمة، فيما لا يتجاوز عدد كلمات نشيدنا الوطني 71 كلمة، 63 حرفاً في 376 حرفاً. وهكذا، لهواة الإحصاء والأرقام، 19.7 في المئة من نشيد نخلة مصروفة للتأكيد أننا "كلنا للوطن" لبنان.
 
فأيُّ مؤكّدٍ هذا الذي يجب أن نؤكّده مرةً في بداية النشيد، ومرّتين في لازمة بكعب كل مقطع من ثلاثة تؤلف النشيد؟ إننا نشبه في ذلك رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" السابق وليد جنبلاط الذي لا يغادر فرصة إلّا أكّد فيها التمسّك بـ "مصالحة الجبل" التي رعاها البطريرك الراحل مار نصر الله بطرس صفير، ونشبه اللبنانيين الذين نشروا على حساباتهم في مواقع التواصل الاجتماعي صورةً لصليب كاتدرائية القديس جاورجيوس اليونانية الأرثوذكسية يعانق مئذنة جامع محمد الأمين في مسيرة 14 آذار (مارس) 2005 المليونية بعد شهر على مقتل رئيس الحكومة اللبناني رفيق الحريري بتفجير دامٍ، ولم يدم طويلاً هذا العناق حتى "انفخت الدفّ وتفرّق العشّاق"، ونشبه من تقدّموا الجموع الغفيرة في أول أيام ثورة 17 تشرين الأول (أكتوبر) 2019 مؤكّدين أن ثورتهم "لا طائفية ولا مذهبية"، حتى إذا أمر السيد حسن نصر الله، أمين عام "حزب الله"، شيعته بالخروج من الثورة، سالت الدماء الطائفية في الساحات.
 
في كل مرّة، يعود كبار القوم اللبنانيين إلى نغمة "إثارة النعرات الطائفية" لتكون الشمّاعة التي يعلّقون عليها تخويفهم الناس من التغيير، لأنهم هم أنفسهم من يدسّ النعرات ويوقظ الفتن، لأسباب صار الحديث عنها نافلاً. لكن، أليس إثارة النعرات وإيقاظ الفتنة من موجبات الدستور اللبناني، ومن أمثولات النشيد الوطني. ففي ثاني مقاطع نشيد نخلة: "شيخنـا والفتـى عنـد صـوت الوطن... أسْـدُ غـابٍ متى سـاورتنا الفــتن". وهذا بيت القصيد. لا أعرف متى ألّف نخلة أهزوجته، لكن ذلك تمّ بالتأكيد قبل 27 تموز (يوليو) 1927. ففي ذلك التاريخ، اعتمدت هذه الأهزوجة نشيداً وطنياً رسمياً للبنان. ونخلة أحسن قراءة تاريخ هذا البلد قبل أن يكون بلداً كما نعرفه، فما قال مثلاً "متى ساورتنا المحن"، والمحن تليق بقافيتها، لكنه استشرف المستقبل جيداً، وأيقن أن لا أخطر على لبنان من فتنه الداخلية. ألم يعلّمنا التاريخ هذا، منذ حوادث 1840 في جبل لبنان، وحتى آخر تغريدة على منصةٍ للتواصل الاجتماعي، تخضّ البلاد وتجيّش العباد؟ إنها الفتن، لا غيرها، مستيقظة في لبنان لا تنام، وإن غفلت قليلاً تحلم بنا. فأي أمر ممكن هنا أن يتحول إلى فتنة قاتلة. فمن يتذكر مصيبة تقديم الساعة أو تأخيرها في رمضان الماضي، يعرف أن نفوسنا جميعاً أمّارة بالفتنة، حتى من جاهر بالتعالي عنها. 
 
وعندنا في الأهزوجة نفسها أيضاً أربع "للعلى للعلم": 8 كلمات في 71 كلمة، و40 حرفاً في 376 حرفاً...  أي 11.2 في المئة مصروفة للازمة لا لزوم لها. في تاريخ لبنان الحديث، المناسبة الوحيدة التي خلت من الأعلام الحزبية ورفع فيها الناس أعلاماً لبنانية (بنسبة 98 في المئة) هي المسيرة المليونية إياها. فـ "للعلى" لأي "علم"؟
 
لنضع مسألة "أي لبنان نريد" جانباً... إن حدّقت قليلاً في أعلام الجماعات الفاعلة في لبنان منذ بداية الحرب الأهلية حتى اليوم، لن تجد "لبنان" الوطن صريحاً وواضحاً إلّا في رايات الأحزاب المصنّفة "يميناً". فالأرزة اللبنانية موجودة رمزاً مقطّعاً في علم حزب "الكتائب اللبنانية"، ومثلثاً في علم حزب "الوطنيين الأحرار"، ولاحقاً صريحةً ومسوّرة بخط أحمر في علم "القوات اللبنانية"، وهو الأقرب إلى روح العلم اللبناني. في اليسار، يمثّل "الحزب الشيوعي اللبناني" استثناءً: فهو يجاهر بأنه "اللبناني" رغم أنف الأممية التي تدثر بها طويلاً حتى وقع فأس غورباتشوف في رأس لينين، وهو من رسم "أرزة" في إحدى زوايا علمه، قريباً من السارية، أي قبل منجله والمطرقة. أما باقي أحزاب اليسار، فتقدّمي اشتراكي، وسوري قومي اجتماعي، وبعثي سوري أو عراقي، وعمل شيوعي، وناصري... إلى آخر التنظيمات، ولا لبنان في أسمائها ولا في أعلامها. وحين انقسم البلد بين يمين يريد وطناً قومياً مسيحياً على مساحة 10452 كيلومتراً، ويسارٍ يريد فلسطين، كانت "الحركة الوطنية" هائمةً لا نعرف إلى أي وطن تنتمي، على الرغم من أن مؤسسها وقائدها كمال جنبلاط تحدث كثيراً عن لبنان الوطن النهائي في مؤلفاته، وكانت في مقابلها "الجبهة ’اللبنانية‘".
 
في الجانب الإسلامي من هذه المعادلة، لا "لبنان" في علمي حركة "أمل" و"حزب الله"، ولا في علم "الجماعة الإسلامية" أو غيرها مما يماثلها. ففي قواميس هؤلاء، نحن اللبنانيين موجودون مرحلياً، وسنذوب تالياً في أمة إسلامية، لا نعرف من يسبق إليها: إيران أم جماعة "الإخوان"! واليوم، يُدخل "حزب الله" الذي يجاهر بإيرانيته المواطن اللبناني فرداً في منظومة "وحدة الساحات"، التي تحطّ من قدر لبنان: من وطنٍ نهائيّ لجميع أبنائه، إلى ساحة نزال، ربما تتميز من ساحات إيران الأخرى... لا أكثر. فما نفع الأرزة إذاً؟
 
إلى ما سبق كله، ثمة حزبان تائهان: "حزب التوحيد العربي" الذي رسم الـ "تاء" بشكل يقترب من العلم اللبناني على الرغم من أنه يجاهر بتوحيد عربي، و"الحزب الديمقراطي اللبناني" الذي يقرّ أنه "لبناني" ويدسّ خريطة لبنان كلها في علمه.
 
هذا بيتنا بمنازل كثيرة. وهذا اللبناني بهويات متخيّلة، يتخلّى عن لبنانيته في أي لحظة، بحربٍ أو من دونها، بانتماء أو من دونه... يا رجل! ففي أيام كأس العالم لكرة القدم، تتزيّن شرفات المنازل بأعلام ألمانيا والبرازيل وفرنسا وإسبانيا وغيرها، فنكون البلد الوحيد في هذا العالم الذي يرفع مواطنوه جهاراً أعلام دول أخرى في بيوتهم وسياراتهم، وينافحون عن أحقية هذا الفريق أو ذاك في الفوز، لتصل المنافحة أحياناً إلى الاشتباك المسلح، بلا مساءلة.
 
وأخيراً، هذا نشيد نخلة مصفوفة كلمات لا تتجاوز حدّ "أعذب الشعر" من دون أي شعار ينمّ عن موقف. حتى أن نخلة نفسه رفعنا جميعاً نحن اللبنانيين إلى رحمة الله، فكتب "صانه ربه لمدى الأزمان"، إذ ما وجد فينا مخلّصاً من "متى ساورتنا الفتن". فهيّا بنا نتعايش قليلاً ريثما تستيقظ الفتنة من جديد.
 
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium