التمويل المستدام والمصرفية الخضراء يمثلان مفهوماً رئيسياً في عالم الأعمال الحديث، حيث يهدف كلاهما إلى دعم المشاريع والأنشطة التي تعزز الاستدامة البيئية والاجتماعية. يتمثل التمويل المستدام في توجيه الاستثمارات والقروض نحو المشاريع التي تلتزم معايير الاستدامة، مثل الطاقة المتجددة والبنية التحتية الخضراء والمشاريع الاجتماعية المستدامة. أما المصرفية الخضراء فتشير إلى الممارسات المصرفية التي تدعم التنمية المستدامة وتحافظ على البيئة، مثل تمويل مشاريع الطاقة النظيفة وتحسين الكفاءة البيئية للمؤسسات المالية.
تُعتبر منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من أكبر المنتجين والمصدّرين للطاقة، ما يجعلها تلعب دوراً حيوياً في التحول نحو الطاقة المتجددة وتقنيات الطاقة النظيفة. تتجّه العديد من الحكومات والشركات في هذه المنطقة نحو تبنّي سياسات واستراتيجيات تشجيعية لتطوير مشاريع الطاقة المتجددة وتحسين كفاءة استخدام الطاقة، ما يفتح باباً كبيراً أمام الاستثمارات في هذا المجال.
تتمثل أهمية التمويل المستدام والمصرفية الخضراء في تحفيز الابتكار وتحقيق التنمية المستدامة، وتعزيز الاستثمار في المشاريع البيئية والاجتماعية التي تساهم في خلق قيمة مستدامة للمستثمرين والمجتمع. كما تساهم في تحقيق الأهداف العالمية للتنمية المستدامة واتفاقية باريس للمناخ من خلال دعم المشاريع ذات الأثر الإيجابي على البيئة والمجتمع.
مع مرور الوقت، أصبح التمويل المستدام أحد المحاور الرئيسية في عالم الأعمال والاقتصاد، وهو اليوم أكثر من مجرد اتجاه فرعي. يشهد العالم العربي اهتماماً متزايداً بتعزيز التمويل المستدام والاستثمار الخضراء، وذلك لمواكبة التحدّيات البيئية والاقتصادية المتزايدة.
تُعتبر شبكة التمويل الأخضر والمستدام في الدول العربية مبادرة رائدة تهدف إلى تعزيز هذا الاتجاه الحيوي. توفّر هذه الشبكة منصة لتبادل التجارب والخبرات بين الدول العربية، وتسهم في نقل المعرفة والتنسيق في مواضيع التمويل المستدام.
تهدف هذه المبادرة إلى دعم تطوير الأنشطة المالية والاقتصادية التي تعتمد على مبادئ الاستدامة والحفاظ على البيئة. إضافة إلى ذلك، تعمل الشبكة على زيادة الوعي بقضايا التمويل المستدام وإدارة مخاطر تغيّرات المناخ، ما يسهم في تعزيز الاستدامة الاقتصادية والبيئية في المنطقة.
التمويل المستدام في المنطقة
التمويل المستدام هو نهج مالي يعزز تحقيق أهداف اقتصادية، اجتماعية وبيئية مستدامة، من خلال دمج المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة (ESG) في قرارات الأعمال والاستثمار. يعترف هذا النهج بأن الأداء المالي للشركات لا يجب أن يُقيّم على أساس العوائد المالية قصيرة الأجل فحسب، بل يجب أيضاً أن يأخذ في الاعتبار تأثيرات هذه الشركات على البيئة والمجتمع والحوكمة الرشيدة.
تتضمن المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة (ESG) مجموعة من المبادئ التي تهدف إلى توجيه الشركات نحو ممارسة أعمال أكثر استدامة ومسؤولية. في الجانب البيئي، تشمل هذه المعايير إدارة الموارد الطبيعية من خلال تقييم كيفية استخدام الشركات للموارد مثل المياه والأراضي، وتقليل التأثير البيئي السلبي. كما يتمّ تقييم استراتيجيات استخدام الطاقة وتقليل انبعاثات الكربون، بالإضافة إلى حماية التنوع البيولوجي وتقليل التلوث. من الناحية الاجتماعية، تركّز المعايير على احترام حقوق الإنسان، وضمان ظروف عمل عادلة وآمنة، والمساهمة في تنمية المجتمعات المحلية. أما في حوكمة الشركات، فتهتم المعايير بالشفافية والمساءلة في إدارة الشركات، وسياسات مكافحة الفساد، والتنوع في القيادة.
يهدف التمويل المستدام إلى تحقيق نمو اقتصادي طويل الأجل يوازن بين العوائد المالية والمخاطر البيئية والاجتماعية، وتقليل المخاطر من خلال دمج معايير (ESG)، وجذب الاستثمارات المسؤولة والمستدامة، وتعزيز الابتكار في تطوير منتجات وخدمات تتماشى مع الأهداف البيئية والاجتماعية. في التطبيقات العملية، يشمل التمويل المستدام إصدار السندات الخضراء لتمويل مشاريع بيئية إيجابية، وتقديم القروض الاجتماعية للمشاريع التي تعزز التنمية الاجتماعية، والاستثمار في الشركات التي تلتزم معايير (ESG).
كما أن فوائد التمويل المستدام متعددة، تشمل تحسين الأداء المالي للشركات التي تتبنّى ممارسات (ESG)، وتعزيز سمعتها وزيادة ثقة المستهلكين والمستثمرين، والتوافق مع التشريعات الحكومية التي تشجع أو تُلزم الشركات بتبنّي معايير الاستدامة، ما يمنح الشركات ميزة تنافسية في السوق.
المصرفية الخضراء: نموذج جديد
تشكّل المصرفية الخضراء نموذجاً جديداً في عالم الخدمات المالية، حيث تركّز على توجيه الاستثمارات نحو المشاريع والأنشطة التي تدعم البيئة وتسهم في الاستدامة البيئية. تتبنّى هذه المصارف معايير بيئية واجتماعية وحوكمية (ESG) في قراراتها المالية، ما يجعلها تلتزم المسؤولية الاجتماعية والبيئية في أنشطتها التجارية.
في ظلّ الزيادة المستمرة في الوعي بالتغيّر المناخي والتحدّيات البيئية، أصبحت المصارف الخضراء أداة فعّالة لتعزيز التنمية المستدامة وحماية البيئة. تتعاون هذه المصارف مع القطاعات الحكومية والشركات والمجتمع المدني لتمويل مشاريع تعزز الاستدامة وتحدّ من التأثيرات السلبية على البيئة. فعلى سبيل المثال، تمكن القطاع المصرفي والمالي الإماراتي من تحقيق إنجازات ملحوظة في تطوير الحلول المصرفية المستدامة، بما يتماشى مع إستراتيجية الدولة لخفض الانبعاثات وتحقيق الحياد المناخي بحلول العام 2050 ومع أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة. وقد كشف اتحاد مصارف الإمارات أن إجمالي التمويل الأخضر لستة بنوك محلية بلغ نهاية عام 2022 أكثر من 190 مليار درهم (51.8 مليار دولار)، وهي تتجّه إلى زيادة مساهمتها في تنمية هذا المجال الواعد.
يتضمن نموذج المصرفية الخضراء تقديم خدمات مالية مبتكرة تدعم الاستثمارات في مجالات مثل الطاقة المتجددة، وإدارة المخلفات، والحفاظ على الموارد المائية، وغيرها من المشاريع التي تساهم في خفض انبعاثات الكربون وتعزز التنمية المستدامة.
إضافة إلى دورها في دعم البيئة، تساهم المصارف الخضراء أيضاً في تحسين الشفافية والمساءلة في قطاع الخدمات المالية، حيث تعزز معايير الحوكمة وتشجع على التقارير المالية المستدامة والشفافة.
الجدير بالذكر أن المصارف الخضراء لا تقتصر فقط على دعم المشاريع البيئية فحسب، بل تسعى أيضاً إلى تعزيز الابتكار وتمويل المشاريع الاجتماعية التي تسهم في تحسين جودة الحياة وتعزيز المساواة والعدالة الاجتماعية.
التأثير على الاستثمار
إن تأثير التمويل المستدام والمصرفية الخضراء على الاستثمار يتجلّى بوضوح في تغيير أنماط الاستثمار في المنطقة. حيث يشهد المستثمرون إقبالاً متزايداً نحو المشاريع والشركات التي تتوافق مع المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة. ويتمّ ذلك ليس فقط بسبب الحوافز الأخلاقية والتنظيمية، بل أيضاً لأن هذه الاستثمارات تتمتع بربحية على المدى الطويل.
تعمل هذه الاتجاهات على تعزيز الشفافية والمساءلة في القطاع المالي، ما يضطر الشركات في المنطقة إلى تحسين ممارسات الحوكمة والتركيز بشكل أكبر على الأثر الاجتماعي والبيئي لأنشطتها. وهذا الاتجاه يدعمه اهتمام متزايد من المستثمرين الدوليين الذين يفضّلون وضع رأس المال في الأسواق التي تولي الأولوية للمبادئ المستدامة.
في المجمل، يؤثر التوجّه نحو التمويل المستدام والمصرفية الخضراء على تغيير منهجيات الاستثمار وتعزيز المسؤولية الاجتماعية والبيئية للشركات، ما يساهم في بناء اقتصادات أكثر استدامة ومستدامة في المنطقة وعبر العالم.
فرص وتحدّيات التمويل الأخضر لأهداف التنمية المستدامة
في إطار العلاقة القوية والمرتبطة بين الحدّ من الانبعاثات الكربونية والنمو الاقتصادي المستدام، تشير التقديرات إلى أن تبنّي عمليات منخفضة الكربون من خلال مراعاة الاستدامة البيئية والمناخية يساهم في تحقيق ازدهار اقتصادي يبلغ نحو 26 تريليون دولار حتى عام 2030، إضافة إلى توفير أكثر من 65 مليون فرصة عمل، سواءً بشكل مباشر أم غير مباشر، وذلك بحسب اللجنة العالمية للاقتصاد والمناخ.
لكن تواجه عمليات الاستدامة تحدّي التمويل، إذ أشار برنامج الأمم المتحدة الإنمائي إلى وجود فجوة تمويلية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، قدِّرت بنحو 2.5 تريليون دولار، كما بينت وكالة الدولية للطاقة المتجددة (إيرينا) أن العالم بحاجة إلى نحو 700 مليار دولار كاستثمارات صافية إضافية في مجال الطاقة المتجددة خلال الفترة (2023-2030) .
وفي إطار التغلّب على تلك المعضلة، ظهر ما سُمّي "الاقتصاد الأخضر"، الذي يساهم في تعزيز النمو الاقتصادي مع مراعاة تحقيق الأبعاد البيئية لأهداف التنمية المستدامة، من خلال التزام تنفيذ كلٍّ من التزامات اتفاق باريس للمناخ جنباً إلى جنب مع التزامات أجندة الأهداف الإنمائية. هنا يستطيع القطاع المالي أن يلعب دوراً رئيسياً في تحقيق تلك الالتزامات من خلال دمج مفهوم الاستدامة في القطاع المالي، أي إحداث تحول نوعي في طريقة إدارة الوساطة المالية، من خلال تطوير أدوات مالية ومصرفية جديدة يمكن تصنيفها تحت مظلة التمويل المستدام، ذلك الذي يوجّه للاستثمارات التي توازن بين الأهداف الاقتصادية والبيئية من أجل تحسين مستوى الرفاهية وتخفيف حدّة التحدّيات العالمية المرتبطة، مثل التغيّر المناخي، وما نتج منه من تراجع للتنوع البيولوجي، وعدم المساواة، وما إلى ذلك. ويتضمن التمويل المستدام أشكالاً وتصنيفات عديدة، نذكر منها: التمويل المناخي، والتمويل الأخلاقي، والتمويل المسؤول، والتمويل الأخضر.
في الختام، مع استمرار تطور منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، يبرز دور التمويل المستدام والمصرفية الخضراء كعناصر حيوية ومحورية في تحديد مستقبل الاقتصاد في هذه المنطقة. إن هذه الأساليب المالية ذات الطابع البيئي والاجتماعي تتيح فرصاً جديدة لتعزيز التنمية الاقتصادية بشكل مستدام ومسؤول، ما يؤدي إلى تحسين نوعية الحياة والرفاهية للسكان في المنطقة.
تلتزم المنطقة المصرفية الخضراء والتمويل المستدام، ما يشجع على زيادة الاستثمارات ويعزز فترة جديدة من الازدهار. ويتمثل هذا النمو في توفيق النمو الاقتصادي مع الحفاظ على البيئة، كما ويعكس التزام المنطقة بالتنمية المستدامة والمسؤولية الاجتماعية.
بهذا الشكل، يعدّ التمويل المستدام والمصرفية الخضراء نقطة تحول حاسمة نحو مستقبل أكثر استدامة وازدهاراً لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ويمثل خطوة مهمّة نحو تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة في المنطقة وعبر العالم.