أطلق الفيلسوف الأميركي نعوم تشومسكي على "مؤسسة ويكيليكس" اسم "قوة نشر الديموقراطية"، وطالب بمنح مؤسسها جوليان أسانج وساماً لأنه محارب شجاع من أجل الحريّة، قدّم خدمة جليلة للإنسانية. فالوثائق السرّية التي سرّبها أسانج تفضح الخرق الفاضح للدستور الأميركي من جانب المؤسسات الأمنية الأميركية، فبدلاً من أن تحمي الناس، صارت تخترق خصوصياتهم وأسرارهم على نحو خطير.
قطة وسط الحمائم
في هذا الأسبوع، تمّ الإفراج عن أسانج بموجب صفقة مع القضاء الأميركي، بعد أن ظلّ زمناً رهين السجن والإقامة الجبرية. لكن تشومسكي لم يبتهج بالنبأ، لأنه أصيب بسكتة دماغية يرقد بسببها بين الحياة والموت.
ولد تشومسكي في 7 كانون الثاني (يناير) 1928 بولاية فيلادلفيا الأميركية لأبوين يهوديين، رجل دين مهاجر من أوكرانيا وأم كاتبة قصص أطفال من بيلاروسيا. نشأ وسط ظروف اقتصادية قاسية، وتفوق في دراسته، وفي الثانية عشرة من عمره ألّف الفتى الخارق الذكاء - كما وصفته أمه – كتاباً تنقّل فيه من سبينوزا إلى كانط وهيغل، وصولاً إلى ماركس وفرويد.
تشومسكي داعية الحرّية، الفيلسوف والمفكر وعالم اللسانيات وأستاذ السياسة، اتّسم بمشاغباته الطفولية، وبلمعة الذكاء في عينيه وشعره المسترسل وقمصانه الكتان وانتصاره للعقل ووقوفه في وجه الإمبراطورية. في عام 1979، قال بول روبينسن، أستاذ التاريخ في جامعة ستانفورد، لصحيفة "نيويورك تايمز" إنه "أهم مفكر على قيد الحياة اليوم". رسم ملامح ما سمّاه "مشكلة تشومسكي"، مشكلة "المؤرخ صاحب الرأي حينما يسكن جسداً واحداً مع فقيه لغوي بارع"... تركت كتاباته تأثيراً واسعاً في الحقول المعرفية للغويات والنقد الأدبي وعلم النفس والفلسفة والعلوم السياسية، وهو أستاذ لسانيات في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا.
جمعت الزنزانة تشومسكي والروائي الأميركي نورمان ميللر، عقب تظاهرات أمام البنتاغون في عام 1967، احتجاجاً على الحرب في فيتنام. بعدها، قال ميللر إن تشومسكي عبقري، ووصفه في روايته "جيوش الظلام" بأنه رجل نحيل، حاد الملامح، ينمّ عن التقشف، ويتمتع باستقامة أخلاقية مطلقة.
أحدث تشومسكي ثورة في علم اللسانيات، إذ أطلق قطّة وسط قفص حمائم الفلاسفة، وأعاد تثبيت الأفكار العقلانية بطريقة جديدة، على الرغم من تعرّضه لحملة تشويه شرسة. وهو يؤمن في كل كتاباته بأن المفكر لا يسير كالأعمى مجاراة للمجتمع، بل يتحرّى كل شيء، لذلك تلفت كتابات تشومسكي الأنظار، فهي تكشف حقيقة أعمال المؤسسات السياسية القوية في عالمنا المعاصر. وهو من أكبر مناهضي السياسات الأميركية في العالم، بدّد كتاباه "فهم السلطة" و"ماذا يريد العم سام" وغيرهما أسطورة أميركا، الدولة التي تقدّم نفسها داعمة للديموقراطية، وقال إن ذلك وهم!
السجل الإجرامي
أشار إلى أن لا ديموقراطية حقيقية إلّا بأن لا يكون رأس المال موجوداً في أيدي الأقلية وحدها، بينما تتضور الأغلبية جوعاً وجهلاً ومرضاً، سواءً داخل كل دولة أو بين الدول المختلفة، لافتاً إلى أن الولايات المتحدة تتصرف بوصفها دولة مارقة بطريقة أحادية، تخرق الأعراف والقوانين بحجّة المصالح القومية؛ تلك التي تمثّل في حقيقتها مصالح النخب الأميركية الضيّقة - وفقاً لآدم سميث - تزدري القانون الدولي والرأي العام، داخل الوطن أو في العالم.
وثّق تشومسكي السجل الإجرامي الأميركي ضدّ شعوب الأرض، من جنوب شرق آسيا إلى أميركا الجنوبية مروراً بالشرق الأوسط. ألقت واشنطن قنابل على 28 بلداً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ودبّرت انقلابات في دول عدة، ودعمت الديكتاتوريات الوحشية في أخرى. الإنفاق العسكري الأميركي يعادل نصف إنفاق العالم، وهي تنشر قواعدها في 25 دولة، ما يجعلها متأهبة للتدخّل عسكرياً في أي بقعة على الكوكب.
اعتبر تشومسكي الولايات المتحدة نفسها دولة إرهابية رائدة، بحسب التعريف الأميركي للإرهاب، وناهض الصهيونية وفنّد مبرراتها وفضح مزاعمها وشركاءها. ومع أنه يهودي الديانة، تعاطف بقوة مع عدالة القضية الفلسطينية، ما جرّ عليه اتهامات بأنه "معادٍ للسامية" أو حاقد على يهوديته، إذ كيف يخون دينه ويساند الإرهاب العربي؟! شُنّت عليه حملات مكثفة وتطاولت عليه كتابات اتهمته بالكذب والتناقض. من ذلك كتاب پول بوكدانور "200 كذبة من كذبات تشومسكي"، وكتاب تشارلز كالينا "نعوم تشومسكي ونقاده"، وغيرهما. كما تمنعت عليه "جائزة نوبل" على الرغم من أنها ذهبت إلى بعض تلاميذه. لم يتراجع تشومسكي ولم يهادن، بل وقف ضدّ أطماع الصهيونية ومشروعاتها التدميرية، إذ كيف لمفكر أو أي إنسان عاقل أن يقبل بتشريد شعب بكامله، ليحيا شعب آخر بدلاً منه؟
رجل مشاكس
لا يؤمن تشومسكي بالأبطال، بيد أنه أحد أبطال الحقيقة في عيون الكثيرين، لذلك قال: "لقد قمت بشيء لائق في حياتي هذه"، ناضل باستماتة ضدّ الظلم وصدح بالحق، مهاجماً الاستبداد والديكتاتورية وانتهاك حقوق الإنسان في كل مكان. وعاش حياته مهموماً بالفلسفة يرى أنها يمكن أن تكون رأس الحربة في جهود إصلاح العالم؛ ولم ينفك يحذّر من أن البشرية مقبلة على ما هو أشدّ من جائحة كورونا، كالحرب النووية والاحتباس الحراري وصدام القوى الكبرى.
ربما لأنه مثقف لا يشبه إلّا نفسه، رجل مشاكس، حامل لرؤية إنسانية عميقة، حاضر في كل أحداث العصر ونادراً ما يكون غائباً، مخترقاً عصر العنف والبرمجيات الخارقة؛ فضحت "تسريبات ويكيليكس" أنشطة التجسس التي تقوم بها الولايات المتحدة وغيرها من الدول على الإنترنت والاتصالات الهاتفية للملايين من المواطنين، على نحو يذكّر بأجواء رواية "1984" لجورج أورويل.
هذا هو نعوم تشومسكي، بأبحاثه ونضاله المستميت من أجل السلام والإنسانية والمظلومين، لا سيما الفلسطينيين الذين يعانون القتل والدمار والوحشية. لكننا قد لا نشعر بثمار يانعة لجهوده، لأن رؤى العالم تضيق وهيمنة المال الفاسد والأيديولوجيا المرتبطة بها تتسع، لذا يصعب أن تكون النتيجة إلّا على الصورة التي نبصرها في عالم اليوم.
قبل أيام، تضاربت الأنباء حول مصير تشومسكي البالغ من العمر 95 عاماً، إثر إصابته بسكتة دماغية، ودخوله إحدى مستشفيات البرازيل. وأوضحت زوجته أنه يعاني صعوبة في الكلام، وأنه يتابع الأخبار، وعندما يرى صور الحرب في غزة يرفع ذراعه في إشارة رثاء وغضب.
لم يصمت تشومسكي يوماً عن قول الحق ومناصرة الضعفاء، مهما تطاول عليه المتطاولون، إلّا عندما أسكته المرض. خسرت فلسطين بوعكته الصحية إحدى أهم الشخصيات الأكثر عدلاً ودفاعاً عن الحق، وهو الآن على الجسر الواصل بين الدارين، بعد أن ضمن الخلود كأحد حراس الذاكرة الجمعية الإنسانية الكبار!