النهار

العرب وتقارب القنفذ!
عزالدين سعيد الأصبحي
المصدر: النهار العربي
ليس هناك من مَخرَج لاستقرار هذه المنطقة والعالم، وازدهار الوطن العربي كما يجب، إلّا بعودة مشروع جامع.
العرب وتقارب القنفذ!
اجتماع لوزراء خارجية الدول الأعضاء في الجامعة العربية (أ ف ب)
A+   A-
 
 
ليس هناك من مَخرَج لاستقرار هذه المنطقة والعالم، وازدهار الوطن العربي كما يجب، إلّا بعودة مشروع جامع.
 
ليس في الأمر خيال علمي لكنه حديث الضرورة، الذي صرنا للأسف نتهرّب منه. 
 
هذا الأسبوع، وجدت نفسي أشهد حدثين مهمّين في الرباط: الأول، مؤتمرٌ أمميٌ حاشد حول اقتصاد الرعاية والحماية الاجتماعية، وفيه رأيت إعادة الاعتبار إلى مكانة المرأة وإلى خطاب التضامن العربي والانفتاح الإنساني وتمكين النساء. خلاصة القول، إن تعزيز الحماية الاجتماعية وإيجاد اقتصاد متعافٍ يجعلاننا في مسار التقدّم، والأهم في سلام مجتمعي.
 
كان الحضور المميز لخبيرات من مختلف العالم عربياً ودولياً مقدّراً، وأخرج بقناعة هي أنه في ما يبدو بالغالب واقعية الطرح أن الذكور يصنعون الحروب والنساء يخلقن السلام، (ليس كل النساء بطبيعة الحال، ولا كل الذكور!)، لكن اللافت في الأمر الطرح الذي يُعيد الأمل بالتقارب ووضع الحلول.
 
ورأيت في الحدث الثاني حفلاً فنياً، الناس تهتف مع كل ذكر اسم بلد قَدم منه بعض المشاركين، سواء من لبنان والمغرب ومصر أو اليمن وفلسطين أو اسم أي بلد عربي، حيث يضج الناس بالفرح وإظهار مشاعر المحبة. وتندهش لصدق المشاعر، ووضوح الرؤية الشعبية لأهمية التقارب وتجاوز صراعات عجيبة. 
 
وعندما تترك هذا الواقع الحي إلى فضاء السياسة والإعلام والعالم الافتراضي، تجد صراعات لا تنتهي، وحالة محزنة من خطاب الكراهية والتشظي تحيط بهذه الأمة العربية، التي وضعها القدر في قلب العالم وجعلها أمينة على أهم طرقه الدولية ومخزون ثروات البشرية، وعدم القدرة على خلق حدٍ أدنى من التقارب وتكامل الأدوار.
 
أتذكر هنا النظرية الشهيرة للفيلسوف الألماني شوبنهاور المسمّاة "مُعضلة القنفذ". فقد تأمّل الرجل الذي لم يسمع بقضيتنا في كل حال، ولحسن حظ العلم والبشرية، أنه تأمل بالقنافذ لا بحالة جيلنا! ودرس الرجل موقف حيوان القنفذ، واعتبرها واحدة من معضلات الإنسان الاجتماعية النفسية، وسمّاها "مُعضلة القنفذ". وما نقل عن تلك المعضلة أعيده هنا. 
 
فـ "شوبنهاور" قال إن "الإنسان الكائن الوحيد الذي يشعر باحتياج شديد إلى أن يقترب من الناس ويتفاعل معهم، فالعزلة تبقى قاسية جداً ومؤلمة بالنسبة إلى الإنسان الطبيعي (مثل البرد بالنسبة إلى القنفذ)، فيقرّر أن يفعل كالقنفذ: يبحث عن أبناء جنسه ويلتصق بهم طلباً للدفء النفسي. 
 
المشكلة أن التصاقه وقربه هذا لن يكون مصدر سعادة وراحة له طول الوقت، وإنما على العكس، سيكون مصدر ألم وتعب، لنفسه ولأقرانه. وهنا تتولّد مشاعر سلبية كثيرة مثل الضغط النفسي والغضب والفراق وغيره.
 
ومثلما يكون القنفذ مجبراً على إيذاء أقرانه، ذات القضية تحصل مع الإنسان (لن يتعمّد جرح أحد)، إنما هي الطبيعة البشرية ولكل منّا أشواكه!
 
نظرياً، وجد القنفذ حلاً لهذه القضية، واستحدث طريقة بسيطة ناجحة، وهي عملية سمّاها شوبنهار "المسافة الآمنة": استطاع القنفذ أن يختار مسافة معينة من السلامة، تضمن له الدفء الكافي، وفي نفس الوقت أقل درجة ممكنة من الألم.
 
في إسقاط هذا القول الشهير، وهو متداول كثيراً عن الفيلسوف الألماني، على واقع أمتنا سياسياً، فنحن بحاجة إلى ابتكار مسافة آمنة. فبعد غياب الرؤية الجامعة، وأمام حالة الاقتتال الدامية، والصراعات العجيبة، لتكن هناك حالة من المسافة الآمنة، يمارس فيها أبناء الأمة طقوسهم المؤمنين بها، وتتوقف حالة غرس الأشواك في بعضنا بعضاً. ويبدأ المجتمع بالتعافي، وبصنع استقرار يولد دفئاً في صقيع التآمر الدولي الواضح على هذه الأمة. 
 
ليس في الأمر تنازلات من أحد، بل يعود ملف التعاون الاقتصادي إلى مقدمة الحوارات، وتُترك الطرقات بين البلدان كلها مفتوحة، وتعود المطارات آمنة أمام الجميع، وتنساب حركة التجارة والثقافة. 
 
حينها فحسب، تشعر الأمة كلها بالأمان، وتطبّق حكمة القنفذ، حتى يجد الناس طريقهم من دون تبادل الأذى من تقارب دامٍ أو عزلة قاسية أو حرب مدمّرة.
 
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium