أسدل الستار، الأسبوع الماضي، على المطاردة القضائية من جانب الولايات المتحدة ضد جوليان أسانج مؤسس موقع "ويكيليكس"؛ بعد صفقة: حريته مقابل الإقرار بذنب انتهاك قانون التجسس الأميركي. أحرج الصحافي المرشح لجائزة نوبل للسلام "سيدة العالم الحر"، بأكثر مما تطيق؛ لاحقته 14 عاماً، منها سبعة تحت الإقامة الجبرية؛ طالباً اللجوء بسفارة الإكوادور في لندن، ثم ست سنوات بسجن بريطاني.
خنق الصحافة
صار أسانج بطلاً من وجهة نظر المدافعين عن حريّة التعبير حول العالم. أشعر الحكومات بالقلق، أن يقوم المواطنون بتفتيش الحكومة لا العكس... ورآه آخرون شخصاً خسيساً عرّض الأمن القومي الأميركي للخطر. تضع الصفقة حداً لمعاناة أسانج وعائلته. لكن الصفقة تفتح باباً واسعاً للإمبراطورية الأميركية؛ لخنق الصحافة الجادة وملاحقة مَن يكشفون جرائمها بأي مكان في العالم، إذ تعد سابقة قانونية. رحبت الأمم المتحدة بالإفراج عن أسانج، لكنها حذرت من أن القضية تثير "المخاوف على صعيد حقوق الإنسان".
لم يرتكب أسانج جرماً لكنه لوحق؛ لأنه كشف عن جرائم ارتكبتها الإمبراطورية، أسّس موقع ويكيليكس عام 2006، لنشر المعلومات والتسريبات السرية التي تهمّ المجتمع، من أجل المصلحة العامة. بدأ الأمر بتسريبات جرائم الفساد واستغلال النفوذ، إلى أن نشر فيديوهات ووثائق، في نيسان (أبريل) 2010، توثق جرائم حرب ارتكبها أفراد من الجيش الأميركي في العراق، ثم أفغانستان، وبالطبع في فلسطين بدعم إسرائيل في جميع الميادين، وإعطائها الضوء الأخضر والأسلحة؛ كي تولغ في دماء الفلسطينيين... إلى جانب مئات آلاف البرقيات الدبلوماسية، والتي أبرزت آليات عمل الإمبراطورية في فرض الهيمنة على الشعوب الأخرى. أصبح عمل أسانج جريمة، وبدأت الهجمة الأميركية على موقع "ويكيليكس"؛ ألقي القبض على أسانج في بريطانيا عام 2010، عقب اتهامات سويدية بارتكابه جرائم جنسية، تم إسقاط تلك الاتهامات بعد ذلك، لكنه ظل مطارداً. بحث مسؤولو الأجهزة المخابراتية الأميركية سبل التخلُّص من أسانج؛ بوصفه مصدر تهديد رئيسياً لأميركا. اقترح مايك بومبيو وزير الخارجية السابق عندما كان مديراً للمخابرات الأميركية اختطاف أسانج أو اغتياله، لكن تم التخلي عن هذا الطرح، تجنباً للإحراج!
ضد الأكاذيب
حدد جوليان أسانج مهمته ذات يوم بأنها إيقاف القوة التي تستخدمها المؤامرة بشكل منهجي، ومنعها من التفكير والتصرف بكفاءة، للحيلولة دون قيام كبار طغاة ومجرمي العصر من الدول والجماعات بتكميم أفواه الشعوب. دافع عن حق الإنسان في التعبير عن رأيه، وهو موقف كلاسيكي مرتبط بحرية التعبير التي قدستها فلسفة الأنوار الأوروبية والتعديل الأول في الدستور الأميركي.
شن أسانج، عبر "ويكيليكس"، سلسلة مدمّرة من الهجمات ضد القتل والأكاذيب والخدع اللاإنسانية التي ميّزت سياسات الدولة العظمى. كشفت وثائق "ويكيليكس" التأثير الشرّير لجرائم الحرب الأميركية حول العالم، ولا سيما دول الشرق الأوسط. فضحت دور وكالات الأمن القومي الأميركية ونظيراتها في بريطانيا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا وغيرها، من الجهات التي تورطت معها، كما أشارت الوثائق إلى طوابير عملاء واشنطن التابعين، سواء في دوائر صناعة القرار أو صفوف المعارضة وناشطي حقوق الإنسان على السواء. قال ماثيو ميلر المتحدث باسم الخارجية الأميركية، مؤخراً، إنَّ الوثائق التي نشرها أسانج "قدّمت معلومات عن أفراد كانوا على اتصال بوزارة الخارجية، ومن بينهم زعماء ونشطاء حقوق الإنسان في أنحاء العالم، تم تعريضهم للخطر بسبب الكشف عنهم علناً". واعتبر مايك بنس نائب الرئيس الأميركي السابق أن الاتفاق مع أسانج "إجهاض للعدالة، يقلل من شأن تضحية الرجال والنساء في القوات المسلحة".
أتاح موقع "ويكيليكس" كمّاً معرفياً هائلاً من المعلومات عن أساليب واشنطن وتكتيكاتها للانقلاب على إرادة الشعوب. خاض معركة مشهودة ضد إساءاتها بحق الآخرين، جرّاء الاستغلال الاقتصادي والعبودية السياسية والاجتماعية. أفصح عن الايديولوجيات التي تعينها على ذلك، مثل الليبرالية المتوحشة التي تجعل الأفراد عراة أمام سطوة الشركات الكبرى المتعددة الجنسيات. تستحوذ النخبة بالغة الثراء، والتي لا يتجاوز تعدادها 1%، على المجتمع الأميركي وتتحكم في اختياراته، وتخدمها الحكومة - كما قال نعوم تشومسكي – أما الـ 99% الباقون فيتلقون الأوامر من النخب الحاكمة التي تريد ضرائبنا ومواقفنا الصامتة. إنها حرب شرسة بين الطبقات، تفضي نتائجها إلى ترتيبات اجتماعية واقتصادية وسياسية تمزق النظام الديموقراطي.
نهاية درامية
فضح جوليان أسانج التفاوت بين أفعال الإدارة الأميركية من جهة والكيفية التي تقدم بها منظومة الإعلام تلك الأفعال. يبدو الإعلام في الغرب "إعلاماً حرّاً"، يتمتع بقدر كبير من الصراحة والاستقلالية والتقدمية، في المقابل يؤدي الإعلام ما يسمى "صناعة القبول"، بمعنى ترسيخ أجندة اقتصادية وسياسية تضعها النخب المهيمنة في أذهان المواطنين والدفاع عنها، وضمان أن تتحدد خياراتهم ومواقفهم بطريقة تجعلهم يقومون بفعل ما تريد هذه النخب. وتلجأ وسائل إعلام في الغرب والشرق إلى عدة وسائل واستراتيجيات لصرف انتباه الرّأي العام عن المشكلات المصيرية، بدءاً من الإلهاء عن الواقع، عبر وابل من البرامج التافهة أو المعلومات المضللة، إلى تزييف الوعي لمنع الرأي العام من الاهتمام بالحقائق لإحكام السيطرة على أفكاره وقراراته.
فعل أسانج بالامبراطورية ما عجزت عنه جحافل الرجال. أظهر خطورة الاستفراد بالقوة، والأحادية القطبية وغياب العدالة في ردهات النظام العالمي اليوم، لتغييب أصحاب الشأن عن مسئولية اتخاذ القرار؛ عاش حياته على حافة الخطر بين المغامرة والنضال والمطالبة بحرية الوصول إلى المعلومات، ولما تدهورت صحته، وأعيته الحيل، اشترى حريته بعقد صفقة مع الامبراطورية للخروج من الجحيم. قال الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا: "العالم اليوم أفضل قليلاً وأقل ظلماً؛ أسانج حر بعد 1901 يوم، في السجن، إطلاق سراحه وعودته إلى وطنه أستراليا، انتصار للديموقراطية والكفاح من أجل حرية الصحافة".
سعت الولايات المتحدة إلى أن تجعل من أسانج عبرةً لكيلا يتجرّأ آخرون على فضح أسرارها وجرائمها في الداخل والخارج. لكن من المبكر وضع نقطة النهاية في حكاية أسانج المثيرة؛ لا أحد يعتقد أن فصول القصة قد تنتهي دون "دراما"؛ فالامبراطورية لا تفضل هذا النوع الهادئ من النهايات مع أعدائها، نهايات مفتوحة في مهب الريح!