يضع المصريون الكثير من آمالهم على الدكتور أسامة الأزهري، منذ اختياره في الأيام الماضية وزيراً للأوقاف المصرية، في إصلاح شؤون المساجد وأئمتها، وتجديد خطابها الديني، وتطوير دورها وآلياتها في صناعة الوعي المجتمعي، في ظل تعالي خطاب أصولي متخبّط حيناً، ومتطرّف أحياناً.
تركة وزارة الأوقاف الحالية ليست بالهينة في ظل تحدّيات قائمة على تطوير المنظومة ودورها بالكامل، فضلاً عن تزايد حجم المشاكل والأزمات الداخلية والمظلوميات التي خلّفتها الإدارة السابقة، في ظل مراقبة مجتمعية مراهنة على الأزهري وقدرته العلمية والعملية في تفكيك المشهد من جذوره، من دون الاقتصار على المسكنات أو الاكتفاء بضبط الشكل العام.
المسؤولية الواقعة على عاتق الأزهري ومعاونيه يمكن اختصارها شكلاً في تطوير مستوى وعقلية وطريقة تفكير الملقي (الإمام أو الداعية)، وكذلك تطوير عملية الإلقاء ذاتها (مدى الاستفادة من الأدوات العلمية الحديثة في نشر المنهجية الوسطية المعتدلة)، فضلاً عن تطور المحتوى والمضمون (مفردات الخطاب الديني والمجتمعي وقضاياه).
وضعت تيارات "الإسلام الحركي" منطلقات مشروعها الفكري على نبذ الآخر وتكفير معتقده وتجهيل إيمانه، ومن ثم الأولى بالقائمين على "دولة المنابر" أن يعملوا وفق إطار مشروع فكري، يمثل حائط صدّ وجدار حماية للأجيال المقبلة، حتى لا تقع في شباك الفكر المتطرّف. وظني أن الأزهري يمتلك مشروعاً فكرياً (وبعض الظن حسن)، لكن التحدّيات التي سيواجهها عديدة في ظل خيوط العنكبوت المختبئة في أروقة وزارة الأوقاف ومساجدها، بعد سيطرة المذهبية السلفية والمنهجية الإخوانية على عقلية الكثير من مشايخها وخطبائها.
ربما الإشكالية الكبرى التي تقف أمام الأزهري تتمثل في تطوير عقلية الدعاة وتكويناتهم الفكرية، نتيجة تمدّد الفكر السلفي في المدرسة الأزهرية، على الرغم من الإجراءات التي اتخذها الوزير السابق الدكتور محمد مختار جمعة، وجهوده في اقتلاع وتحجيم جماعة "الإخوان" وحلفائها من ممثلي التيارات السلفية.
كما عليه أن يضع روشتة علاجية لتفادي القصور السلوكي والنفسي لـ"الدعاة" وخطباء "دولة المنابر"، والتي تستلزم جهوداً واهتماماً من خلال مؤسسات معنية ومتخصصة عملياً وطبياً في متابعتهم دورياً لمعرفة مدى صلاحيتهم في القيام بدورهم، في ظل تعاملهم المستمر مع الجماهير والتعرّض الدائم للقضايا المجتمعية، مع تدريبهم وتثقيفهم على فنون المعرفة والعلوم الفلسفية والاجتماعية والتكنولوجية، بجانب التركيز على التشبّع بمفاهيم الدولة الوطنية، وعدم تعارض الانتماء الديني مع الانتماء الوطني، مثلما كرّست له الجماعات الأصولية المتطرّفة.
ليس من المبرّر أن تظل "خطبة الجمعة" والدروس الدينية في منأى تام عن استخدام وتوظيف الوسائل الشرح والمشاهدة المتطورة التي تجعل الحوار ثرياً وجذاباً ومشوقاً وسهلاً، لا سيما أن ذلك لا يتعارض مع الإسلام ومقاصد الشريعة، ولا يدخل في إطار البدعة المستحدثة كونه يقع في نطاق التطور والتغيير والحاجة، خصوصاً أن التطور التكنولوجي امتلك مساحة كبيرة من الحياة اليومية لمختلف فئات المجتمع، بتعدد مراحلها العمرية.
توظيف الجماعات الأصولية والتيارات السلفية للإعلام الحديث، في تمرير منهجيتهم الفكرية، وضع "دولة المنابر" في حرج شديد، والتي لم تعد تتوقف على المساجد ومؤسساتها، ما يتوجب على القائمين على وزارة الأوقاف المصرية حالياً بناء "منظومة إعلامية" كبرى على منصات التواصل الاجتماعي، يمكنها التغطية أو سحب البساط من هيمنة وسيطرة التيارات السلفية التي أوقعت الشعوب العربية في وحل التطرّف والتشدّد الديني، فضلاً عن دورها في زيادة وتيرة الإلحاد بين الشباب، في ظل حالة من الانغلاق والتضييق والتخبط الفكري التي مارستها المؤسسات الدينية الرسمية والشعبية معاً.
المطلوب منظومة إعلامية شاملة لمجموعة من البرامج والمواد الوثائقية، التي ترتكز على إرساء قيم التسامح والعدل والمحبة والعلاقات الإنسانية، والترابط الأسري، بين مختلف أطراف المجتمع، بعيداً من ثقافة التناطح والتشكيك في معتقدات الآخرين، أو توجيه الاتهامات أو اختزال الإيمان، أو مفردات تقنيط الناس، ومنعطفات التحدث باسم الله.
تمثل الزوايا (المساجد الصغيرة) عائقاً أمام بناء منظومة الوعي الفكري، في ظل تحولها إلى مرتكزات داعمة للجماعات الأصولية ومنهجيتها المتشدّدة، لا سيما المنتشرة في الأقاليم والمدن النائية والمناطق الشعبية، في ظل وقوع أغلبيتها خارج سيطرة وزارة الأوقاف المصرية (وضمّ بعضها شكلاً)، وفشلها في منع غير المختصين من صعود المنابر، نتيجة عجزها عن توفير أئمة وخطباء مسؤولين عن نشاطها الديني، ما تحتّم على القائمين على "دولة المنابر" إعادة النظر في وضعية هذه البنيات والاستفادة منها وتحويلها إلى مشاريع تجارية أو ثقافية تدرّ نفعاً على المجتمع، وتدعم الأسر الفقيرة والمهمشة، وتسهم في العملية التنموية ضمن "مشروع الوقف المصري"، تحقيقاً لمقاصد الشريعة وتجنّباً لمخاطر تمدّد الفكر المتطرّف.
لا يمكن أن يحدث التغيير في دور منظومة الأوقاف المصرية من دون التطرّق إلى محاور قضية "تجديد الخطاب الديني"، والتخارج من بوتقة الانغلاق الفكري، والتقوقع في حيز اجتهادات السابقين، وإهمال الاستنباط وتبنّي الرؤية المواكبة لروح الحياة العصرية، وعدم اختزال أزمة الخطاب الدعوي في تطوير فنون الإلقاء، من دون النظر في المحتوى الديني، وتفكيك أطروحات التطرّف والإرهاب، والتي لن تتحقق من دون وجود مشروع فكري متماسك ومحدد الملامح والبرامج، يعمل على تأهيل الدعاة والأئمة، ويمّهد للانفكاك عن عوامل الزحف السلفي الأصولي التي غمرت العقلية الأزهرية على مدار سنوات طوال.
ربما على قائمة مطالب التغيير المأمولة من الأزهري أن تنهي "دولة المنابر" عزلتها وقطيعتها مع القوى المدنية المتنوعة، من خلال إجراء حوارات مجتمعية تمهّد لبناء جسور من التواصل والتفاهم الفكري، من دون تصارع أو تناحر، والتعاطي مع الاسهامات المتعددة في تجديد الخطاب الديني وأطروحاته، لتحريك المياه الراكدة على المستويين الفكري والثقافي.
إن التغيير المأمول على يد الدكتور أسامة الأزهري، لن يتحقق بين يوم وليلة، في ظل عقبات متواصلة ومستمرة من داخل المؤسسات الدينية الرسمية أو من خارجها، وتغلغل قوى الشر في أروقة وزارة الأوقاف المصرية، ومن دون التشارك مع مؤسسات الدولة التعليمية والرياضية والثقافية والفنية في صناعة خطاب وسطي معتدل، قادر على تجفيف منابع التطرّف والإرهاب، يرسي محددات الدولة الوطنية، ويحترم تشريعاتها وقوانينها، ويقبل منهجية الآخر ومعتقده.