"أنا من نار وهو من طين". هذا كان تبرير أول واقعة عنصرية في تاريخ البشرية، حين رفض إبليس أن يسجد لسيّدنا آدم. "أنا خيرٌ منه" مقياس بدأ فوق البشر، فحوّله بشر لبنان إلى معيار للوطنية، فصار في البلد أشرف الناس... وأشرّهم.
لنفكّر معاً في السبيل الأمثل لتدبّر أمر البلاد في اليوم التالي، إن بقيت الحرب في الجنوب من "مسافة آمنة" أم تطورت إلى "المسافة صفر"، وإن التزمت عضّ الأصابع، أم توسّعت إلى حرب ربع عالمية. ولننسَ ما يُشاع عن غزة، فالاختلاف كبير بيننا وبين الغزّيين. في القطاع الذي لم يعد موجوداً، لا "حماس" في اليوم التالي. نقطة. انتهى. في جنوب لبنان، هذه المعادلة لا تصحّ. فإن صمد "حزب الله" أم تقهقر إلى ما قبل الليطاني، فهو باقٍ باقٍ باقٍ... ونحن اللبنانيين، ممن رفضوا التورط في الحرب منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، سندفع الثمن باهظاً.
إذا قرأنا تاريخاً ما مرّ عليه الزمن، كان اليوم التالي لخروج آخر جندي إسرائيلي من بوابة فاطمة في جنوب لبنان، في 25 أيار (مايو) 2000، هو أول يوم في استراتيجية "حزب الله" للانقضاض على البلاد. فهيمن هاجس الاغتيالات، ودخل لبنان في هوس الاستقطاب المرير بعد اغتيال رفيق الحريري في 14 شباط (فبراير) 2005.
وشهد اليوم التالي لإعلان "حزب الله" انتصاره الإلهي في حرب تموز (يوليو) 2006 تمظهراً للقوة المفرطة التي تبلورت في أبهى حللها في يومي 8 و11 أيار (مايو) 2008، أحدهما "مجيد" طبعاً. فبغض النظر عن أي قرار كانت الحكومة اللبنانية ستتخذه حينها، كان "حزب الله" سينفّذ ما قيل إنه "القصاص" بمن لم يقف في صفّه في حربه تلك، بعد حملة تحسس الرقاب طبعاً.
في 8 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، جرّنا "حزب الله" إلى حرب المشاغلة والمساندة جراً. ما قلنا يوماً إن لا ناقة لنا في فلسطين ولا جمل. أبداً. لكننا قلنا ونقول إن لا ناقة لنا في مشروع إيراني في المنطقة يمتطي صهوة فلسطين لتحقيق مآرب مختلفة، ومنها تفاوضي مع الغرب... ولا جمل. واليوم، هذا الفائض في قوة "حزب الله" لا يقبل إلّا أن يكون لبنان كله بيئته، يأتمر بأمره، ويؤازره في هذه الحرب على قاعدة "من ليس معنا فهو عدونا"، حتى نهاية أسطوانة التخوين المعهودة. وربما يكون الاعتداء على الناشط عامر حلاوي مثالاً بسيطاً على ما ينتظر البلاد في يومها "التالي". فحلاوي هو ابن الجنوب وبيئته المقاومة، ما طاقت بيئته إياها انتقاداً إنسانياً فطرياً غير سياسي منه، فحاسبته شرّ حساب... ومثله كثيرون.
إن أتى اليوم التالي لهذه الحرب، فهذا يعني أن تسوية ما تمّت. ومهما كانت النتائج، ومهما كانت قواعد الاشتباك الجديدة، فسيعود الهدوء ليعمّ الجنوب كما عمّه 18 عاماً بعد إقرار القرار الأممي 1701، وسندفع مرغمين من عرق جبيننا ثمن دمار كبير خلّفته المشاغلة والإسناد وما بعدهما، وسنسمع شتيمتنا ممن يدفنون قتلاهم، وسيتضاعف إحساس هؤلاء بالغبن الناتج من الثمن البشري الذي دفعوه للحرب، والذي لا يخفف فائض القوة وطأته. ولن تجد بيئة "حزب الله" قناةً لتنفيس الاحتقان الذي يولّده هذا الغبن إلّا "من ارتادوا المسابح والمطاعم والملاهي الليلية ليعيشوا، بدلًا من أن يموتوا كما نموت". حينها، نعمة كبرى إن اقتصر الأمر على مصطلح "أنا خيرٌ منه"، وما تجاوزها إلى العودة لنغمة القمصان السود... و"سنقطعها".
لا يوم كيومك التالي يا لبنان! ليس هذا يوم بناء ما تهدّم، إنما يوم هدمِ ما بقي. إنه يوم نتفتت فيه ونتبدّد، فيحقد شمالنا على جنوبنا لأنه دمّر البلاد، ويعيّر جنوبنا جبلنا لأنه قعد عن الجهاد... وهكذا.
يهدّدنا إسرائيليٌّ بردّنا إلى العصر الحجري، فنهزأ به إذ نحن شعب تحكمه "معادلات حجرية". ويعيّرنا لبناني بأننا لا نموت فداه، فجوابنا: "إنك امرؤ فيك جاهلية".