يبدو أن القرن الإفريقي على موعد مع "انقلاب" في التوازنات الجيوستراتيجية، بعد إعلان الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود أنه "لن يمانع" في وصول إثيوبيا إلى البحر الأحمر والمحيط الهندي، عبر استئجار ميناء صومالي، لكنه لن يسمح لها بإنشاء قاعدة عسكرية؛ الاتفاق يجعل إثيوبيا دولة عظمى إقليمياً. المدهش أنها تتحلى بالصبر الاستراتيجي، تتمهل في الرد على عرض الرئيس الصومالي، مع أنها كانت تنتظره بشوق، للخروج من "سجن الجغرافيا" بحسب وصف رئيس وزرائها آبي أحمد!
حملة دبلوماسية
منذ كانون الثاني (يناير) الماضي، شن شيخ محمود حملة دبلوماسية؛ رفضاً للاتفاق بين أديس أبابا مع جمهورية "أرض الصومال" المعلنة من طرف واحد، والذي يمنح إثيوبيا منفذاً ساحلياً بطول 20 كلم حول ميناء بربرة لأغراض اقتصادية وعسكرية، لمدة 50 عاماً، مقابل اعتراف إثيوبيا باستقلال "أرض الصومال" التي انفصلت عن الصومال عام 1991، ولم يعترف بها المجتمع الدولي كدولة مستقلة، بيد أن اعتراف إثيوبيا قد يلعب دوراً حاسماً بالنسبة لها. اعتبر شيخ محمود "الاتفاق" عملاً عدوانياً بمثابة إعلان حرب ينتهك سيادة بلاده ووحدة أراضيها، يهدد الاستقرار الهش بالقرن الإفريقي، وتعهد بأن الصومال لن تتنازل عن شبر واحد من أرضها وبحرها. الموقف الصومالي وجد تفهماً ودعماً من دول عربية وإفريقية وتركيا والاتحادين الإفريقي والأوروبي، بينما ألمحت الولايات المتحدة إلى عدم اعتراضها على التمدد الإثيوبي.
جرت في النهر مياه كثيرة، قدم الرئيس الصومالي عرضاً مخففاً لإثيوبيا، يلبي عدة أهداف: إعطاء أديس أبابا ميناءً بحرياً يخضع للسيادة الصومالية، لإبطال مساعيها لوجود عسكري دائم يمزق وحدة الصومال، وإفشال محاولات "أرض الصومال" انتزاع الاعتراف الدولي، فوق هذا وذاك إحراج الداعمين الإقليميين والدوليين للمطلب الإثيوبي، على رأسهم الولايات المتحدة، ما يجعل ظهر رئيس الوزراء الإثيوبي مسنداً للحائط، دون حجة مقبولة لرفض عرض شيخ محمود، بالإضافة إلى أن أي اتفاق لتأجير مناطق بالشواطئ الصومالية يحقق منافع للاقتصاد الصومالي، ويقلل التوترات في المنطقة.
أخطر المنافسين
حتى الآن، تتمهل إثيوبيا في قبول عرض شيخ محمود؛ في مؤشر للإصرار على الاتفاق مع "صومال لاند"، ولا سيما أن "العرض الجديد" مشروط بعدم إقامة قواعد عسكرية إثيوبية، مع أن إثيوبيا ترى "العرض الصومالي" الأخير مكسباً لرؤيتها الاستراتيجية؛ يتفهم مطالبها بمنفذ بحري في الجوار، وربما يسمح لها لاحقاً ببناء قواعد عسكرية، وتحييد الجانب الإريتري عن الخلاف مع الصومال. الأهم بالنسبة لإثيوبيا أن اتفاقاً من هذا النوع يفتح الباب لتحقيق هدف استراتيجي: انقسام عميق في الصومال؛ فاستمرار الصومال موحداً يعني مطالبته بإقليم أوغادين الذي تحتله إثيوبيا. الصومال لو استقرت أوضاعه، بموارده وموقعه الاستراتيجي، أخطر منافسي أديس أبابا على زعامة القرن الإفريقي، لذلك تبذل قصارى جهدها لكيلا يستقر الصومال فعلياً، تغرقه في المشكلات وتتدخل عسكرياً في أراضيه.
تفيض ذاكرة الصوماليين بذكريات أليمة مع الإثيوبيين، يدفعون فاتورة باهظة لتوجهات قوى إقليمية ودولية -إسرائيل وأميركا بالدرجة الأولى - تقدم الدعم لإثيوبيا، لجعلها دولة مهيمنة في المنطقة، وتستغل إثيوبيا هذا الدعم لإطلاق العنان لأطماعها في أراضي وموارد دول الجوار؛ أعلنت تأسيس قوات بحرية ضخمة، مع أنها دولة حبيسة بلا شواطئ، للمشاركة بفاعلية في المخططات والتحركات الدولية، في مدخل المحيط الهندي وباب المندب والبحر الأحمر، أمنياً وعسكرياً واستخباراتياً، تطرح نفسها "حارساً" للمصالح الغربية في المنطقة، وتعمل على مواجهة الاستراتيجيات والمصالح العربية قرب أهم ممر ملاحي عالمي.
نجاح الطموح الامبراطوري الإثيوبي مرهون بإيجاد موطئ قدم على البحر، قال آبي أحمد إن الحصول على منفذ بحري "مسألة وجودية، البحر الأحمر هو الحدود الطبيعية لإثيوبيا، لا يمكننا أن نحيا داخل هذا السجن الجغرافي". تخوض أديس أبابا مغامرة محسوبة، تحصل على منافذ بحرية، وتمنح أرض الصومال الاعتراف، صفقة تغضب الصومال، لكنها أقل خطورة من الحرب مع إريتريا، ولو نجحت فإنها سترفع أسهم أديس أبابا ومكانتها في الإقليم والعالم، كما تعزز قبضة آبي أحمد على مقاليد السلطة، في المجتمع الإثيوبي الذي يعاني نزاعات مسلحة بين مكوناته الإثنية.
الحلم يقترب
يجيد رئيس الوزراء الإثيوبي النقلات على رقعة المنطقة، في أثناء زيارته للعاصمة التركية في أيار (مايو) الماضي، طلب وساطة أنقرة في النزاع مع الصومال، حول الاتفاق مع "أرض الصومال"، وبالفعل استضاف هاكان فيدان وزير الخارجية التركي، نظيريه الإثيوبي والصومالي في أنقرة، دون نتيجة تذكر. لا تنظر تركيا بارتياح إلى الاتفاق، تشارك مصر والسعودية موقفهما الرافض، وقعت تركيا اتفاقية للدفاع مع الصومال. أما أبرز المواقف المؤيدة للصومال والمعارضة للاتفاق مع إثيوبيا، فهو الموقف المصري، عبرت القاهرة عن الدعم الكامل للصومال، تتوجس القاهرة من أنه سيفتح "جبهة جديدة" مع أديس أبابا بالإضافة إلى ملف سد النهضة، يرى المصريون الأمر تهديداً خطيراً للأمن القومي المصري والعربي؛ بعدما باتت إثيوبيا تتعامل مع مصر بمنطق العدو لا الصديق.
عنصر آخر لا يقل أهمية، في خلفية المشهد، هو الصراع بين القوى العظمى على القرن الإفريقي ذي الأهمية الاستراتيجية الفائقة. ذهبت صحيفة "وول ستريت جورنال" إلى أن الفشل الأميركي في الصومال بالقضاء على "حركة الشباب" المرتبطة بتنظيم "القاعدة"، إلى جانب تدهور الأوضاع الأمنية في إثيوبيا والسودان، يزيد من تعاطف الكونغرس مع اتفاق إثيوبيا و"أرض الصومال"، خاصة مع افتتاح الصين قاعدة عسكرية في جيبوتي، المتاخمة لأرض الصومال قرب باب المندب، في ظل احتدام السباق الأميركي - الصيني على النفوذ في إفريقيا.
إن الاتفاق مع الصومال أو حتى "أرض الصومال" لو أخذ طريقه للتنفيذ، تكون إثيوبيا خطت خطوة لتعديل موازين القوى بالقرن الإفريقي لمصلحتها، لكن هذا لن يوفر لها القدر الكافي من الاستقرار أو الردع، بل ربما يفتح جبهات مع الدول المشاطئة للبحر الأحمر، وغالبيتها دول عربية. من السذاجة الاعتقاد بأن الإمكانات الإثيوبية عسكرياً واقتصادياً وسياسياً تضاهي قدرات مصر أو السعودية مثلاً، وإضافة بؤرة توتر في البحر الأحمر ليست في مصلحة أحد. لذا لا بديل عن إحداث ثغرة في حاجز الثقة بين جميع الأطراف، من خلال التعاون لا الصراع، وبما يلبي مصالح دول الإقليم، لا دولة بعينها!