النهار

دمج الاستدامة في الرعاية الصحية: بناء مستقبل صحي ومستدام
د. إلهام الشحيمي
المصدر: النهار العربي
في عالم يشهد تغيّرات مناخية متسارعة وزيادة الضغوط على الموارد الطبيعية، أصبح من الضروري أكثر من أي وقت مضى أن ننظر إلى الرعاية الصحية بعيون استدامة.
دمج الاستدامة في الرعاية الصحية: بناء مستقبل صحي ومستدام
(تعبيرية)
A+   A-
هل يمكننا أن نتصور مستقبلاً تتفاعل فيه الرعاية الصحية بشكل سلس مع البيئة المحيطة؟ هل يمكن مستشفياتنا وعياداتنا أن تكون موطناً للعلاج والشفاء من دون تأثير سلبي على البيئة؟ إن دمج الاستدامة في الرعاية الصحية يفتح أفاقاً جديدة ومبهجة لتحقيق هذه الرؤية.
 
في عالم يشهد تغيّرات مناخية متسارعة وزيادة الضغوط على الموارد الطبيعية، أصبح من الضروري أكثر من أي وقت مضى أن ننظر إلى الرعاية الصحية بعيون استدامة. إن التفكير بشكل مستدام في كيفية تقديم الرعاية الصحية يعني أن نفكر في الحفاظ على البيئة وصحة المجتمع في آن واحد.
 
تتيح لنا التقنيات الحديثة والابتكارات في مجال الطب والإدارة الصحية فرصاً هائلة لتحقيق هذا الهدف، من التكنولوجيا الخضراء التي تحسن كفاءة استخدام الطاقة في المستشفيات، إلى البرامج التي تعزز الوقاية وتقلّل من حاجة المرضى للعلاج، فإن جعل الرعاية الصحية أكثر استدامة يمكن أن يكون له تأثير كبير على صحة الكوكب وصحة سكانه.
 
أهمية الاستدامة في الرعاية الصحية
في عالم يواجه تحدّيات بيئية متزايدة وزيادة الضغط على الخدمات الصحية، أصبحت الاستدامة في الرعاية الصحية أمراً يكتسب أهمية بالغة. تتضمن الاستدامة في الرعاية الصحية مجموعة من الممارسات والسياسات التي تهدف إلى تحقيق توازن بين تلبية احتياجات الأجيال الحالية من المرضى وضمان قدرة الأجيال المستقبلية على الاستفادة من الخدمات الصحية.
 
تحظى مبادئ الاستدامة بأهمية كبيرة في الحفاظ على الموارد الطبيعية، فهي تعمل على تقليل استهلاك المياه والطاقة والمواد الخام في المستشفيات والمرافق الصحية، ما يساهم في المحافظة على هذه الموارد للأجيال المقبلة.
 
علاوة على ذلك، تسهم مبادئ الاستدامة في تحسين جودة الخدمات الصحية، إذ تشجع على تبنّي ممارسات صحية وسليمة في البيئة العملية.
 
من خلال تبنّي مبادئ الاستدامة، يمكن تحقيق توفير كبير في التكاليف المالية للمؤسسات الصحية، حيث يسهم دمج الاستدامة في القطاع الصحي في تقليل التكاليف التشغيلية والصيانة على المدى الطويل.
 
إضافة إلى ذلك، تعزز الاستدامة الأساليب الحيوية الصحية وتقلّل من الإصابة بالأمراض المزمنة، ما يساهم في تحسين صحة الأفراد والمجتمع بشكل عام.
 
في النهاية، تعكس الاستدامة في الرعاية الصحية الالتزام بالمسؤولية الاجتماعية وتسهم في بناء مستقبل صحي ومستدام للجميع.
 
فوائد الممارسات المستدامة في الرعاية الصحية
في ظل التحدّيات البيئية المتنامية والضغط المتزايد على نظام الرعاية الصحية، أصبح من الضروري بشكل متزايد تبنّي الممارسات المستدامة في هذا المجال. تُعتبر هذه الممارسات أساسية لتحقيق توازن بين تقديم الخدمات الصحية عالية الجودة والحفاظ على البيئة والموارد الطبيعية، ما يعود بالنفع على المؤسسات الصحية والمجتمعات على حدّ سواء.
 
أولاً، تقليل تكاليف التشغيل، بفضل تقليل استهلاك الموارد مثل المياه والطاقة والمواد الخام، يمكن الممارسات المستدامة أن تقلّل من تكاليف التشغيل للمؤسسات الصحية. هذا يعني توفير المال الذي يمكن استثماره في تحسين الخدمات الصحية وتحديث التجهيزات الطبية.
 
ثانياً، تحسين جودة الخدمات الصحية، من خلال توفير بيئة صحية نظيفة وآمنة، تساهم الممارسات المستدامة في تحسين جودة الرعاية الصحية، بحيث يُترجم ذلك من خلال تقديم خدمات أكثر كفاءة وفعالية للمرضى، ما يعزز تجربتهم ويساهم في الشفاء السريع.
 
ثالثاً، زيادة الكفاءة العملية، بتطبيق التكنولوجيا الخضراء وتحسين إدارة الموارد، يمكن الممارسات المستدامة أن تزيد من كفاءة العمليات في المؤسسات الصحية، ما يعني إجراءات أسرع وأكثر دقة، ما يوفر الوقت والجهد والموارد.
 
رابعاً، إن الحفاظ على الموارد الطبيعية يساهم في تقليل الاستهلاك الزائد للموارد الطبيعية، ما يؤدي إلى الحفاظ على البيئة والموارد الطبيعية للأجيال القادمة. 
 
أخيراً، تحسين صحة المجتمع، وذلك من خلال تعزيز الوعي الصحي وتوفير بيئة صحية نظيفة، إذ تقدّم الممارسات المستدامة فرصاً لتحسين صحة المجتمع بشكل عام و تقلّل الإصابة بالأمراض والعدوى.
 
باختصار، توفر الممارسات المستدامة في الرعاية الصحية مزايا متعددة تشمل التقليل من التكاليف، وتحسين جودة الخدمات، وزيادة كفاءة العملية، والمساهمة في حفظ الموارد الطبيعية، وتحسين صحة المجتمع بشكل عام.
 
استراتيجيات لدمج الاستدامة في الرعاية الصحية
 
السياسة والحوكمة
في سياق الزيادة المستمرة في التحدّيات البيئية والضغط المتنامي على الخدمات الصحية، أصبح من الضروري تبنّي استراتيجيات مستدامة لتحسين الرعاية الصحية. تلعب السياسة والحوكمة دوراً رئيسياً في هذا الموضوع، حيث تشكّل الإطار الرئيسي الذي يسهّل ويدعم عمليات الدمج والتنفيذ.
 
إن تطوير سياسات متكاملة وواضحة يمثل الأساس الأول في دمج الاستدامة في الرعاية الصحية. هذه السياسات يجب أن تغطي جميع جوانب الرعاية الصحية وتعزز الالتزام بتوفير بيئة صحية وآمنة، وتحسين كفاءة استخدام الموارد، وتشجيع الابتكار في التكنولوجيا الخضراء. فعلى سبيل المثال، حدّدت دائرة الصحة في أبو ظبي، أهدافاً طموحة لاستدامة قطاع الرعاية الصحية خلال عام 2023، وتستهدف هذه الإجراءات خفض انبعاثات الكربون بنسبة 20 في المئة بحلول عام 2030، وتحقيق صافي انبعاثات صفرية بحلول عام 2050، ووضع خارطة طريق واضحة للتقدّم المستدام في مجال الرعاية الصحية وتعزيز المواءمة عبر النظام البيئي.
 
إضافة إلى ذلك، يتطلّب الأمر تعزيز التوعية والتدريب بين الموظفين والأطقم الطبية حول أهمية الاستدامة وتطبيق الممارسات المستدامة في العمل اليومي. كما يجب أن تتبنّى المؤسسات الصحية نهجاً مشتركاً للتعاون والشراكة مع الحكومات المحلية والجهات ذات الصلة لتحقيق أهداف الاستدامة.
 
مهمّ أيضاً توفير الحوافز والتشجيع لتعزيز دمج الاستدامة في الرعاية الصحية، سواء كانت على صعيد الحكومة أو المؤسسات الصحية نفسها. يمكن ذلك من خلال تقديم حوافز مالية أو غير مالية لتشجيع المؤسسات على اتخاذ إجراءات مستدامة وتبنّي ممارسات صحية بيئية. 
 
وأخيراً، ينبغي مراقبة وتقييم أداء الجهود المبذولة في مجال الاستدامة بشكل دوري، فهذا يساعد في تحديد النجاحات والتحدّيات وتحديد المجالات التي يمكن تحسينها لتعزيز الاستدامة في الرعاية الصحية.
 
تصميم المباني الخضراء
تصميم المباني الخضراء في المستشفيات يمثل توجّهاً ينبع من مفهوم الاستدامة. تشمل التدابير الأساسية المعتمدة للمباني الخضراء، استخدام مواد بناء مستدامة، التي لا تسبّب ضرراً للبيئة وتستجيب لمعايير الاستدامة العالمية. كما يشمل أيضاً تحسين كفاءة استخدام الطاقة، من خلال استخدام تقنيات توفير الطاقة مثل الإضاءة LED، ونظم التدفئة والتبريد عالية الكفاءة.
 
يركّز تصميم المباني الخضراء أيضاً على جمع واستخدام المياه بكفاءة، مما يشمل تركيب أنظمة لجمع مياه الأمطار واستخدامها في أغراض مثل الري والتنظيف. ويتضمن التصميم أيضاً تنفيذ نظم للطاقة الشمسية، وهو ما يساهم في توليد الطاقة النظيفة والمستدامة.
 
لتحقيق تجربة مريحة وصحية للمرضى والموظفين، يتمّ تصميم المستشفيات لتعظيم استفادة الضوء الطبيعي، حيث يتمّ تصميم النوافذ والممرات بشكل يتيح تدفق الضوء الطبيعي بشكل أفضل، مما يقلّل من الحاجة إلى الإضاءة الاصطناعية ويخلق بيئة مريحة وصحية.
 
التوريد المستدام
يشكّل التوريد المستدام في قطاع الرعاية الصحية جزءاً أساسياً من جهود تحقيق الاستدامة في هذا القطاع. يهدف التوريد المستدام إلى تحقيق توازن بين الاحتياجات الحالية والمستقبلية، من خلال استخدام المواد والموارد بشكل يحافظ على البيئة ويسهم في دعم الاقتصاد المحلي وتعزيز العدالة الاجتماعية.
 
تشمل أحدث الاتجاهات في التوريد المستدام تحديد الموردين الذين يتبنون مبادئ الاستدامة في عملياتهم، ويسعون لتقديم المنتجات والخدمات بطرق تلبّي احتياجات الرعاية الصحية دون تلويث البيئة. يتضمن ذلك استخدام المواد المعاد تدويرها والمواد البيولوجية القابلة للتحلّل، والتي لا تلحق ضرراً بالبيئة عند التخلص منها.
 
إضافة إلى ذلك، يركّز التوريد المستدام أيضاً على تحسين كفاءة استخدام الموارد، بما في ذلك المياه والطاقة والمواد، من خلال تبنّي تقنيات وعمليات توفر الطاقة والموارد بشكل أكبر.
 
كما تُعتبر مراقبة الأداء وتقييم التأثير البيئي لعمليات التوريد جزءاً أساسياً من التوريد المستدام، حيث يتمّ تقييم أداء الموردين والتأثير البيئي لعملياتهم بانتظام، وتحديد الفرص لتحسين الأداء وتقليل الأثر البيئي للمستلزمات الطبية والخدمات المقدمة.
 
إدارة النفايات
تعدّ إدارة النفايات المستدامة في مراكز الرعاية الصحية جزءاً حيوياً من الجهود الرامية لتحقيق الاستدامة في هذا القطاع الحيوي. يتمحور التركيز في هذا السياق حول تطبيق مبادئ الاستدامة على عمليات التخلص من النفايات، مع التركيز على جوانب أساسية عدة.
 
تشمل هذه الجوانب استخدام مواد بناء مستدامة في تصميم وتشييد المرافق الصحية، والتي تتسم بالقدرة على التحلّل البيولوجي أو إعادة التدوير، ما يؤدي إلى تقليل الآثار البيئية للنفايات. إضافة إلى ذلك، يُعتبر فصل النفايات وإعادة تدويرها وتصنيفها بدقّة جزءاً أساسياً من الاستراتيجية المستدامة، ما يقلّل من حجم النفايات الخطرة ويزيد من فاعلية استخدام الموارد.
 
تعتمد الإدارة المستدامة للنفايات أيضاً على تبنّي ممارسات تشجيعية للتحسين المستمر والتوعية البيئية، مثل توفير برامج تثقيفية للموظفين والمرضى حول كيفية التخلص من النفايات بشكل صحيح والحدّ من النفايات القابلة للتحلل. كما تشمل الجهود المبذولة البحث والابتكار في تطوير تقنيات جديدة لمعالجة النفايات بطرق أكثر فاعلية واستدامة.
 
بالتالي، تُسهم إدارة النفايات المستدامة في مراكز الرعاية الصحية في تحسين الصحة العامة والبيئة، وتعزز من فاعلية استخدام الموارد وتقليل التأثيرات السلبية للنفايات على المجتمع والبيئة بشكل عام.
 
التدريب والتعليم
يعدّ تدريب العاملين في مجال الرعاية الصحية على أهمية الاستدامة خطوة حيوية نحو تحقيق أهداف الاستدامة في القطاع الصحي. هذا التدريب يشمل جوانب متعددة تهدف إلى زيادة الوعي وفهم أهمية الاستدامة بهدف تطبيقها في الممارسات اليومية. 
 
يمثل تدريب العاملين في مجال الرعاية الصحية على أهمية الاستدامة جانباً أساسياً من الجهود الرامية لتحقيق بيئة صحية أكثر استدامة وكفاءة، إذ يهدف هذا التدريب إلى تعزيز الوعي بأهمية الاستدامة وتطبيق مبادئها في كافة جوانب العمل الصحي.
 
يتضمن التدريب توعية العاملين بأهمية استخدام الموارد بكفاءة، مثل الماء والطاقة، وتشجيعهم على تقليل الهدر في المواد الطبية والغذائية. كما يركّز على توجيه الموظفين حول أفضل الممارسات لإدارة النفايات، بما في ذلك فصل النفايات الخطرة عن النفايات العادية، وإعادة التدوير، والتخلص من المواد البيولوجية والكيميائية بطريقة آمنة وصديقة للبيئة.
 
علاوة على ذلك، يشمل التدريب تطوير مهارات العاملين في استخدام التكنولوجيا الخضراء، مثل أنظمة الإضاءة والتبريد الموفّرة للطاقة، وتطبيق معايير البناء الأخضر في تصميم وتجهيز المرافق الصحية. بحيث يتمّ تشجيع العاملين على تبنّي ممارسات مستدامة في حياتهم اليومية، ما يسهم في خلق ثقافة عامة من الوعي البيئي داخل المؤسسات الصحية.
 
يهدف هذا التدريب أيضاً إلى تعزيز الابتكار في تطوير حلول مستدامة للمشكلات الصحية والبيئية، وتحفيز العاملين على التفكير بشكل نقدي حول كيفية تحسين العمليات وتقليل الأثر البيئي للنشاطات اليومية في مؤسساتهم. 
 
البحث والابتكار
البحث والابتكار في مجال الرعاية الصحية يمثلان العمود الفقري لتحقيق تقدّم مستدام وتحسين شامل في هذا القطاع الحيوي. فمن خلال الاستثمار في الأبحاث العلمية وتطوير تقنيات مبتكرة، يمكن تحقيق قفزات نوعية في جودة الرعاية الصحية وتقليل الأثر البيئي. 
 
على سبيل المثال، تسهم التقنيات الطبية المستدامة، مثل الأجهزة الطبية الموفّرة للطاقة والمواد القابلة لإعادة التدوير، في تقليل النفايات وتعزيز كفاءة استخدام الموارد.
 
كما يمكن التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي من تحسين كفاءة التشخيص والعلاج، ما يقلّل من الحاجة إلى الموارد ويزيد من دقة وسرعة تقديم الرعاية. 
 
إضافة إلى ذلك، تُعزز الابتكارات نظم الإدارة المستدامة داخل المؤسسات الصحية، بما في ذلك أنظمة إدارة الطاقة والمياه، ما يسهم في تقليل البصمة الكربونية وتعزيز الاستدامة البيئية.
بفضل هذه الجهود المستمرة في البحث والابتكار، يمكن المؤسسات الصحية تقديم رعاية أكثر كفاءة واستدامة، ما يحسن جودة الحياة للمرضى والمجتمعات على حدّ سواء.
 
الختام
في الختام، عندما تلتقي الرعاية الصحية بالاستدامة، يُفتح أمامنا أفقٌ جديدٌ من الفرص لبناء مستقبل صحي ومستدام. إن دمج الاستدامة في الرعاية الصحية ليس مجرد تحسين للخدمات الحالية، بل هو إعادة تصور جذرية لنظام الرعاية بأكمله. من خلال الابتكار المستمر والبحث الطموح، يمكننا تحويل المرافق الصحية إلى مراكز صديقة للبيئة، وتقليل الأثر البيئي عبر تبنّي تقنيات متقدّمة، وتحسين حياة المرضى عبر استشارات افتراضية وإدارة ذكية للموارد.
مع كل مبادرة خضراء، وكل تقنية جديدة تُدمج في نظام الرعاية الصحية، نخطو خطوة نحو عالم يحترم صحة الإنسان والطبيعة على حدّ سواء. 
 
إن التزامنا بالاستدامة في الرعاية الصحية هو التزام بمستقبل تكون فيه الجودة والكفاءة البيئية في صميم كل قرار وكل إجراء. دعونا نحتضن هذه الرؤية الطموحة بحماس وإصرار، ونعمل معاً لتحقيق تحوّل جذري في نظام الرعاية الصحية، حيث تتّحد الرعاية الصحية الفائقة مع الالتزام العميق بحماية البيئة نحو بناء مستقبل صحي ومستدام، يضمن أن يكون عالمنا مكاناً أفضل للجميع، اليوم وغداً.
 
 
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium