لا يخفى على المشتغلين بالمشهد السياسي الأميركي الوضع الحرج الذي يعيشه الحزب الديموقراطي هناك، ذلك الوضع المتمثل - بحسب آراء متابعين - في قُصر الفترة المتبقية على الانتخابات الرئاسية، مقارنةً بما تستوجبه تلك الفترة من فعاليات التجييش والدعاية والدعم اللازم لمرشح الحزب من جهة، وفي ما يبديه الرئيس الحالي جو بايدن من إصرار على خوض السباق الرئاسي، على الرغم من رغبة عدد من كبار الديموقراطيين في دفعه نحو الانسحاب من السباق لصالح مرشح ديموقراطي آخر أوفر منه حظاً (نظراً لما يرونه في بايدن من ضعف أداء مردّه التقدّم في العمر ومستوى الصحة العامة للرجل) من جهةٍ أخرى، وإن كان السبب الأقوى في مأزق الحزب هذا، هو تعنت بايدن وإصراره على رفض الانسحاب؛ إذ لم يزل الرئيس الأميركي عند إصراره على خوض السباق الذي بات قريباً جداً (5 تشرين الثاني/نوفمبر المقبل)، على الرغم مما يُتداول في الأوساط الإعلامية الأميركية بشأن ضعف أداء الرجل في العديد من الملفات المهمّة، ذلك الضعف الذي برهن عليه أداؤه في المناظرة التي جرت - منذ أيام - بينه وبين منافسه دونالد ترامب، والذي انعكس على حظوظ بايدن لاحقاً في استطلاعات الرأي العام التي أشارت في حينها إلى حصوله على تأييد 42 في المئة، فيما ارتفع نصيب منافسه دونالد ترامب إلى 43 في المئة، وهي نسبة تزيد من احتمالية ارتفاعها نجاة ترامب من محاولة اغتيال في مستهل خطابه السبت الماضي أمام حشد من مؤيديه في ولاية بنسلفانيا، ذلك الخطاب الذي أنهته - بعد دقائق معدودة من بدايته - رصاصة مباغتة اكتفت بجرحٍ سطحي في أذن ترامب، فأتت كلها ضعفين بالنسبة لحظوظه الانتخابية؛ إذ ارتفع مؤشر التعاطف معه وتراجع مؤشر انتقاده؛ ومن ثمَّ تعاظمت فرصته في الفوز بالسباق من جهةٍ، بينما ارتفع مؤشر الحرج لدى الديموقراطيين عمّا كان عليه قبل محاولة الاغتيال المشار إليها بسبب ضعف إمكانات مرشحهم وصعود نجم منافسهم الذي لم ينجح الديموقراطيون في ملاحقته سياسياً أو قضائياً (بل باءت المحاولات جميعها التي بذلوها في إطار ملاحقته بإسقاط التهم الموجّهة إليه) من جهةٍ أخرى.
وعليه، فالسؤال الذي يُطرح – هنا - بشأن إصرار بايدن على خوض السباق هو: هل يستمر ذلك الإصرار طويلاً، أم أن في رحم الأحداث ما قد يجبره على غير ذلك؟
للإجابة عن هذا السؤال، يمكن القول إنَّ ثمة عدداً من الشواهد القوية يمكن أن تقود إلى الإجابة التي يشير إليها الخيار الثاني في السؤال المطروح، لعلّ في مقدّمتها ما تمّ تداوله مؤخّراً بشأن سعي كبار الديموقراطيين في إدارة كل من الرئيسين الأسبقين باراك أوباما وبيل كلينتون، في الاتجاه الذي يدفع الرئيس بايدن للانسحاب من السباق، انطلاقاً من إدراكهم مدى أهمية ذلك الانسحاب الذي يُحَبَّذُ له أن يتمّ مبكراً استثماراً لعامل الوقت، تلك الأهمية التي تدعمها شواهد ومؤشرات تدل وتدلل إليه، لعلّ من أهمها حظوظ حملتي المرشحَيْن المالية، إذ إنه في الوقت الذي أعلنت فيه مصادر إعلامية عن تبرّع إيلون ماسك، الملياردير الأميركي الشهير، بمبلغ مالي كبير يقدّر بـ 45 مليون دولار لمجموعة سياسية تؤيّد دونالد ترامب، أعلنت مصادر أخرى أن متبرعين ديموقراطيين أعلنوا تجميدهم تعهدات تبرّع بقيمة 90 مليون دولار للجنة " فيوتشر فوروارد" الداعمة للمرشح الديموقراطي، إذا أصرّ بايدن العجوز الضعيف الذي يجد صعوبة في تجميع أفكاره وترتيبها ومن ثم إثبات جدارته بأن يكون رئيساً لأميركا القوية (كما يذهب بعض معارضي ترشحه) على ترشحه في السباق.
ما يؤكّد حرج الديموقراطيين من إصرار بايدن على المضي قدماً نحو الترشح مجدداً للكرسي الأهم، ليس في أميركا وحدها، بل في العالم كله، هو قناعتهم بأن بايدن ضعيف، تعوزه الحيوية والنشاط اللازمين لمن يتولّى منصب الرئاسة، تلك القناعة التي دلل إليها حديثهم عن حيوية ونشاط بديله المحتمل لخوض السباق عنهم كامالا هاريس، التي أسفرت استطلاعات الرأي التي أجرتها مؤخّراً شركة Bendixen Amandi تقدّمها على دونالد ترامب بنسبة 42 في المئة لها في مقابل 41 في المئة لترامب، الذي قدّمه الحزب الجمهوري رسمياً بعد نجاته من محاولة الاغتيال المشار إليها، مرشحاً عنه.
لم تقف تحدّيات الديموقراطيين في سباق الرئاسة عند ما تمّت الإشارة إليه من كلمات فحسب، بل تعدّت ذلك إلى حسن طالع منافسهم الذي أهدته الأقدار محاولة الاغتيال الفاشلة المشار إليها، والتي زادت من حظوظه الانتخابية، بعدما أصرّ فور نجاته منها أن ينتظر حراسه - قبل الشروع في نقله من مكان الحادث - لبضع لحظات سينمائية، أعرب فيها ترامب (الذي يجيد استثمار مثل تلك اللحظات الحرجة بحكم خبرته) عن شجاعته ورباطة جأشه وتفاؤلهِ بالفوز، عبر تلويحة بقبضة يده، أرسلها للتاريخ وللناخب الأميركي في آنٍ.
وفي الأخير، يمكن القول إنَّه بات على الديموقراطيين البحث عن مخرج مناسب وآلية عمل مناسبة، تصل بهم إلى إقناع مرشحهم الرئيس الحالي جو بايدن الذي ما زال مصراً - وبقوة - على الترشح، ذلك الإصرار الذي تؤكّده تصريحاته المتعلقة بهذا الشأن، والتي من بينها إعلانه مؤخّراً عن استعداده وعزمه على مناظرة منافسه مجدداً في أيلول (سبتمبر) المقبل، على الرغم مما قيل بشأن ضعف أدائه في المناظرة الأحدث المشار إليها التي جرت بينهما.