النهار

التراث الثقافي والاستدامة: جسر بين الماضي ومستقبل مستدام
د. إلهام الشحيمي
المصدر: النهار العربي
يُعتبر التراث الثقافي من أبرز المشاهد التي ترمز إلى رقي وازدهار الشعوب في جميع المجالات، سواء كانت اجتماعية أم اقتصادية أم فكرية أم ثقافية أم فنية.
التراث الثقافي والاستدامة: جسر بين الماضي ومستقبل مستدام
(تعبيرية)
A+   A-
يُعتبر التراث الثقافي من أبرز المشاهد التي ترمز إلى رقي وازدهار الشعوب في جميع المجالات، سواء كانت اجتماعية أم اقتصادية أم فكرية أم ثقافية أم فنية. فالتراث هو ذاكرة الأمم وما فيها، باعتباره ثقافة بقيت راسخة في أذهان الكثيرين، وما زالت أجزاء منه قائمة للعيان. ولأجل ذلك تتسابق الدول في الحفاظ على تراثها العمراني والثقافي المتوارث، وتستحدث له من الوسائل والسياسات والإمكانات ما يحقق لها ترميماً مستداماً لتاريخها وتراثها. ولم تعد الجهود الرامية لتحقيق هذا الهدف مقتصرة على المؤسسة الحكومية الرسمية فحسب، بل اتسعت رقعتها لتشمل الجميع، حيث تتضافر الجهود لإبراز معالم التراث والمحافظة عليه والارتقاء به من خلال تطبيق مفهوم الاستدامة، والبحث عن التنوع في القيم التي تتميز بها المجتمعات البشرية في ما بينها، وإيجاد السبل الكفيلة لحمايته. 
 
فهم التراث الثقافي
يوصف التراث الثقافي بأنه بوتقة للتنوع الثقافي الذي يختزن كماً هائلاً من المعارف، والممارسات، والطقوس، والعادات المختلفة الحاملة لهويات الشعوب التي تراكمت عبر التاريخ وتعاقبت عليها الأجيال، مع المحافظة على المضامين الثقافية التي تحملها وعلى أوجه الإبداع التي عبّر عنها الأفراد والمجتمعات منذ القدم.
 
فهي نتاج حضاري لتفاعل البشر مع البيئة المحيطة بهم، ولأن هذا التفاعل يعكس وجود تأثير متبادل، فالأمر يتعلق بنشاط حركي لا يعرف الثبات، وبالنتيجة سيساهم لا محالة في إكساب المجتمعات القدرة على التطور الذاتي. ومن هذا المنطلق، لا يمكن التشكيك في وجود علاقة متلازمة بين التراث الثقافي والتنمية المستدامة. ذلك أن، حركية المجتمع تتطلّب إيجاد نظم وآليات لإشباع حاجات المجتمع المتزايدة، مع ترشيد استغلال الموارد المتاحة لتمكين الأجيال القادمة من الحصول على متطلبات بقائها.
 
دور التراث الثقافي في الاستدامة
يلعب التراث الثقافي دوراً كبيراً في تحقيق التنمية المستدامة في العديد من المجالات، هذا الموروث الحضاري الأصيل بكل أبعاده، يمكن أن يدفع بالتنمية المستدامة بكل عناصرها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، ويساهم كعامل أساسي في تحديد الأدوار الاجتماعية وتوريثها إلى الأجيال والمحافظة على الهويات الثقافية. 
 
كذلك يساهم في تحقيق التنمية الاقتصادية التي تجد في التراث الثقافي رصيداً مهمّاً لإحداث التوازن المجتمعي والتغيير الآمن. ويشكّل التراث الثقافي مصدر قوة بكل ما يحتويه من أنشطة إنتاجية في تحقيق سبل عيش الجماعات المحلية، ومصدر عيش ودخل واستقرار مادي واجتماعي وثقافي وسياسي يساعد في تحقيق الإيرادات لأفراد المجتمع، فهو يمكن أن يقدّم الكثير ويلعب دوراً مهماً في التنمية المستدامة للمجتمع ككل.
 
الاستدامة البيئية
يُعتبر التراث الثقافي أحد العوامل الرئيسية في تعزيز الاستدامة البيئية، إذ يقدّم مجموعة من الممارسات والمعارف التقليدية التي تثبت فعاليتها عبر العصور. فمن خلال الاعتماد على تقنيات قديمة في مجالات مثل الزراعة وإدارة المياه والعمارة، يمكن تحقيق توازن بين احتياجات الإنسان وحماية البيئة.
 
في مجال الزراعة، تعتمد الممارسات التقليدية على تقنيات مثل زراعة المدرجات والري بالتنقيط الذي يساهم في المحافظة على التربة وتوفير المياه، وهي بدائل مستدامة للزراعة الحديثة التي تعتمد بشكل كبير على المواد الكيميائية. كما تقلّل هذه الممارسات من الحاجة إلى استخدام المبيدات الكيميائية والأسمدة الصناعية، مما يحافظ على التنوع البيولوجي وصحة التربة.
 
في ما يتعلق بإدارة المياه، تُعتبر نظم الري التقليدية مهمّة في تحقيق كفاءة أكبر في استخدام المياه، حيث تساهم قنوات الري والخزانات الأرضية في تخزين المياه وتقليل الفاقد. كما تُسهم الطرق التقليدية في حماية الموارد المائية من التلوث والاستنزاف. 
 
أما في مجال العمارة والبناء، فتعتمد تقنيات البناء التقليدية على استخدام المواد المتاحة محلياً وتصاميم تتوافق مع المناخ المحلي، مما يقلّل من انبعاثات الكربون واستهلاك الطاقة. بدلاً من البناء الجديد، يُفضّل ترميم المباني التاريخية باستخدام التقنيات التقليدية، مما يحافظ على الهوية الثقافية ويقلّل من النفايات البنائية.
 
تُسهم الممارسات الزراعية التقليدية في الحفاظ على التنوع البيولوجي، من خلال زراعة المحاصيل المتنوعة وحماية المناطق الطبيعية المقدّسة، هذا يبرز كيف يمكن للتقاليد القديمة أن تقدّم حلولاً مستدامة للعيش في توازن مع الطبيعة، ما يؤكّد على أهمية دمج التراث الثقافي في استراتيجيات الاستدامة البيئية.
 
الاستدامة الاجتماعية
يشكّل التراث الثقافي عمقاً مهمّاً في هوية المجتمعات، حيث يعكس قيمها وتقاليدها وتاريخها الثقافي. عندما يتمّ الحفاظ على التراث الثقافي واحترامه، يتمّ تعزيز الشعور بالفخر والانتماء للأفراد بمجتمعهم وثقافتهم، فهو يعمل كنقطة تلاقٍ للتفاعل والتواصل بين أفراد المجتمع، سواء من خلال المشاركة في الأنشطة الثقافية المشتركة أو من خلال تبادل القصص والتجارب المشتركة.
 
من جانب آخر، يلعب التراث الثقافي دوراً مهمّاً في نقل المعرفة والمهارات بين الأجيال. فعندما يتمّ تعلّم التقنيات التقليدية والحرف اليدوية والطقوس الثقافية، يتمّ إحياء هذا التراث وتحفيز الانتماء الثقافي والتفاعل بين الأجيال المختلفة.
 
علاوة على ذلك، يشكّل التراث الثقافي منصة للمشاركة المجتمعية وتعزيز الاستقرار الاجتماعي. فعندما يشعر الأفراد بأهمية المساهمة في الحفاظ على تراثهم الثقافي، يزداد مستوى المشاركة والمسؤولية الاجتماعية.
 
بشكل عام، تعتمد الاستدامة الاجتماعية بشكل كبير على الحفاظ على التراث الثقافي، حيث يسهم في تعزيز التواصل والتفاعل الاجتماعي ونقل المعرفة والمهارات بين الأجيال، وبناء مجتمعات قادرة على التكيّف مع التحولات الاجتماعية بشكل صحي ومستدام.
 
الاستدامة الاقتصادية
تسعى الاستدامة الاقتصادية إلى تحقيق النمو الاقتصادي بطريقة تحافظ على الموارد وتعزز الازدهار في المجتمعات على المدى الطويل. واحدة من القطاعات التي يمكن أن تلعب دوراً كبيراً في تحقيق هذا الهدف هي السياحة الثقافية. فمن خلال الاستفادة من التراث الثقافي الغني، يمكن للمناطق تحقيق النمو الاقتصادي وتوفير فرص عمل جديدة.
 
ومن خلال جذب السياح وتوفير تجارب ثقافية مثيرة، يمكن للمناطق توليد الدخل وزيادة الاستثمارات في القطاعات ذات الصلة مثل الفنادق والمطاعم والحرف اليدوية. كما يمكن للسياحة الثقافية أن تسهم في تعزيز الوعي بالتراث الثقافي والتقاليد المحلية، مما يعزز الفهم والتقدير المتبادل بين الثقافات المختلفة.
 
مع ذلك، يجب إدارة السياحة الثقافية بحكمة ومسؤولية لضمان استدامتها على المدى الطويل. لذا ينبغي وضع خطط استراتيجية تهدف إلى الحفاظ على الموروث الثقافي ومنع التدهور والاستنزاف الزائد للموارد. 
 
كما يتطلّب ذلك أيضاً تشجيع الممارسات السياحية المستدامة وتوجيه الزوار لزيارة المواقع الثقافية بطرق تحترم التراث وتسهم في تطويره بدلاً من تدهوره.
 
باختصار، السياحة الثقافية تُعتبر فرصة مهمّة لتحقيق الاستدامة الاقتصادية من خلال استثمار التراث الثقافي، ومع ذلك، يتطلّب ذلك توجيه الجهود نحو إدارة مستدامة ومسؤولة لتحقيق فوائدها على المدى الطويل.
 
التحدّيات والفرص
إن الحفاظ على التراث الثقافي يواجه العديد من التحدّيات، تتضمن جوانب عدة تتنوع بين التحدّيات البيئية والاجتماعية والثقافية. فمع تطور العولمة وتغير أنماط الحياة، يتعرّض التراث الثقافي لخطر الانحسار والإهمال، ما يؤدي إلى تدهور المواقع التاريخية وتلاشي التقاليد والعادات القديمة.
 
على صعيد التحدّيات البيئية، فإن تغيّر المناخ يمثل تهديداً خطيراً للمناظر الطبيعية والمباني التاريخية. فالظواهر الجوية والجيولوجية مثل الفيضانات والعواصف والزلازل التي الحقت أضراراً جسيمة بالمواقع التاريخية والتراثية، فعلى سبيل المثال الزلزال الذي ضرب تركيا ألحق أضراراً جسيمة بالآثار التاريخية في المنطقة المنكوبة. بالإضافة إلى ذلك، فإن نقص الموارد الطبيعية مثل المياه قد يؤثر سلباً على الممارسات التقليدية التي تعتمد على هذه الموارد.
 
من ناحية أخرى، يواجه التراث الثقافي تحدّيات اجتماعية، مثل التحولات الحضرية وتفرّق المجتمعات، حيث يمكن أن يؤدي ذلك إلى فقدان الهوية الثقافية وتفكّك التقاليد والعادات. كما أن التحدّيات الاقتصادية ونقص التمويل يمكن أن تعرّض جهود الحفاظ على التراث الثقافي للخطر.
 
مع ذلك، هناك فرص كبيرة متاحة لتعزيز الحفاظ على التراث الثقافي، حيث يمكن استخدام التكنولوجيا الحديثة مثل تطبيقات الهاتف المحمول ووسائل التواصل الاجتماعي، لزيادة الوعي بأهمية التراث الثقافي وتشجيع المشاركة المجتمعية. بالإضافة إلى ذلك، يمكن تطوير استراتيجيات السياحة المستدامة التي تساهم في الحفاظ على التراث وتعزز الاقتصاد المحلي. لذلك، يجب توجيه الجهود نحو تحقيق التوازن بين التحدّيات والفرص، واتخاذ إجراءات فعّالة لحماية التراث الثقافي وضمان استمراريته وازدهاره في المستقبل.
 
استراتيجيات لدمج التراث الثقافي في التنمية المستدامة
بهدف دمج التراث الثقافي في التنمية المستدامة، لا بدّ من اتباع استراتيجيات مبتكرة وشاملة تضمن الحفاظ على هذا التراث الغني وتطوير المجتمعات. أولاً، يتطلّب الدمج السياسي أن تعمل الحكومات والمنظمات على إدراج الحفاظ على التراث الثقافي ضمن السياسات البيئية والاقتصادية الأوسع. يمكن تحقيق ذلك من خلال تطبيق القوانين التي تحمي المواقع والممارسات التراثية وتشجيع السياحة المستدامة والحرف المحلية. 
 
ثانياً، تُعدّ المشاركة المجتمعية أمراً جوهرياً، حيث يجب أن تكون المجتمعات المحلية في صميم مبادرات الحفاظ على التراث، فإن إشراك قادة وأعضاء المجتمع يضمن أن تكون الجهود متوافقة ثقافياً، مما يعزز فعاليتها واستدامتها. 
 
ثالثاً، يمكن أن يؤدي التعليم والتوعية إلى تعزيز فهم أوسع لقيمة التراث الثقافي ودوره في التنمية المستدامة، ما يشجع المزيد من الأفراد على المشاركة في جهود الحفاظ عليه. 
 
وأخيراً، يلعب الابتكار التكنولوجي دوراً حيوياً، حيث يمكن استخدام التكنولوجيا الحديثة في توثيق وحفظ التراث الثقافي بطرق أكثر كفاءة وواسعة النطاق. على سبيل المثال، يمكن للأرشيفات الرقمية أن تحفظ العناصر الثقافية غير الملموسة مثل الموسيقى والتاريخ الشفهي، في حين يمكن استخدام مواد جديدة في ترميم المواقع التاريخية. من خلال هذه الاستراتيجيات المبتكرة، يمكن تحقيق توازن بين الحفاظ على التراث الثقافي وتعزيز التنمية المستدامة، مما يضمن استمرارية هذا التراث للأجيال المقبلة.
 
خاتمة
باستخدام التراث الثقافي كجسر بين الماضي ومستقبل مستدام، ندرك أن الحفاظ على تراثنا الثقافي ليس مجرد واجب تاريخي، بل هو استثمار في بناء مستقبل يحترم التنوع ويحافظ على البيئة والمجتمع. من خلال فهم دور التراث الثقافي في الاستدامة، ندرك أن الاستدامة ليست مجرد مسألة بيئية، بل هي متعددة الأبعاد تتضمن البيئة والاقتصاد والمجتمع.
 
نواجه تحدّيات عدة في الحفاظ على التراث الثقافي ودمجه في استراتيجيات التنمية المستدامة، ولكن هذه التحدّيات تتيح لنا فرصاً لابتكار حلول جديدة وتعزيز التعاون بين الجهات المعنية، من خلال اتخاذ استراتيجيات متعددة المستويات.
 
بهذه الطريقة، يمكن أن يكون التراث الثقافي عاملاً حيوياً في بناء مستقبل مستدام، حيث يجمع بين الاحترام للماضي والاستجابة لاحتياجات الحاضر، ويعزز التوازن بين الأبعاد البيئية والاقتصادية والاجتماعية للتنمية. 
 
في نهاية المطاف، يُعتبر التراث الثقافي ليس جزءاً من هويتنا فحسب، بل هو أيضاً مورد قيم يساهم في بناء عالم أكثر استدامة وتفاعلاً بين الثقافات والشعوب.
 
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium