لا تترك "جماعة الإخوان المسلمين" مناسبة إلّا وتعلن فيها عن خصومتها الشديدة للرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر، وعن طعنها التاريخي في نظامه وحقبته السياسية، وشنّ حملات إعلامية ممنهجة تنال من دينه وعقيدته، لا سيما في ذكرى "ثورة يوليو" التي يمرّ عليها حالياً 72 عاماً.
الحالة العدائية والكره الشديد من جماعة "الإخوان" وقياداتها لعبد الناصر تنحصر في مجموعة من الأسباب، أهمها قدرته على هزيمة مشروع التنظيم السرّي مبكراً، وإسقاط النقاب عن وجههم الحقيقي في طريقة التعامل مع الدولة والمجتمع على حد سواء، بعد خداعهم وتخديرهم الرأي العام منذ تأسيس حسن البنا الجماعة في آذار (مارس) 1928.
استطاع عبد الناصر وقف التمدّد والتغلغل "الإخواني" داخل مؤسسات الدولة، وسعيهم إلى القفز على السلطة، بعدما حاولوا استغلال حركة "الضباط الأحرار" في تموز (يوليو) 1952، في توطين حكمهم وحصولهم على استثناءات ومكاسب سياسية، من خلال فرض سطوتهم وسلطتهم على مختلف قرارات "مجلس قيادة الثورة"، ومطالبتهم بتشكيل مجلس لـ"الحل والعقد"، يترأسه مرشد "الإخوان" حسن الهضيبي بصفته، ويعرض عليه مختلف القرارات والقوانين، للوقوف على مدى تطابقها مع الشريعة الإسلامية من عدمها، على اعتبار زعمهم المشاركة في صناعة ثورة 23 يوليو، في ظل انفتاح "الضباط الأحرار" على القوى السياسية، رغبة في إسقاط المرحلة الملكية وبناء الدولة الوطنية الحديثة.
إزاحة "الإخوان المسلمين" من المشهد السياسي في الفترة الناصرية كان كاشفاً لحجم التعاون المستتر، والعلاقة الغامضة بين قيادات مكتب الإرشاد والسفارة البريطانية، والتي وظفت الجماعة وقواعدها التنظيمية في خدمة الأهداف السياسية والاستعمارية، فضلاً عن تدعيمها مشروع حسن البنا منذ بدايته من طريق التمويلات الضخمة.
ثمة تعارض بين مشروع "القومية العربية" الذي تبنّاه عبد الناصر والضباط الأحرار، ومشروع حسن البنا وجماعة "الإخوان"، حول عودة "دولة الخلافة" وبناء ما يُعرف بـ"الأممية الإسلامية"، بعدما أسقطها كمال أتاتورك في اسطنبول في آذار (مارس) 1924.
توتر العلاقة بين جماعة "الإخوان" وعبد الناصر أسقط النقاب عن توجّهاتهم الفكرية أمام الرأي العام، وتبنّيهم مذهبية تكفير المسلمين، وميلهم إلى العنف المسلح على يد سيد قطب ومحمد يوسف هواش وعبد الفتاح إسماعيل، ومن ورائهم شكري مصطفى، والتي تُرجمت في كتب "في ظلال القرآن" و"معالم في الطريق"، وتخطيطهم لاغتيال عبد الناصر مرّات عدة، فضلاً عن تشكيل تنظيم 1965، ووضع خطة إسقاط مؤسسات الدولة التي كتبها قطب بيده، تحت مسمّى وثيقة "ردّ الاعتداء على الحركة الإسلامية"، مثلما أورد في كتابه "لماذا أعدموني".
فشل "الإخوان" عملياً في تحقيق أي نفوذ أو مكاسب سياسية خلال حقبة خمسينات القرن الماضي وستيناته، مع تمكّن عبد الناصر والضباط الأحرار من إخراجهم بشكل كامل من معادلة الحكم، وتحجيم تأثيرهم في العمق المجتمعي على المستوى الدعوي والسياسي، أو ما يُعرف بمشاريع "أسلمة المجتمع" التي وضعتها قيادات الجماعة في إطار من تصورات جاهلية المجتمع والتهكّم والسخرية من عاداته وتقاليده وأعرافه.
لن ينسى "الإخوان" أن عبد الناصر أمر بالقبض على قياداتهم، وعلى رأسهم المرشد حسن الهضيبي، وزينب الغزالي، وأصدر قراراً بحلّ جماعتهم، ومصادرة ممتلكاتهم بالكامل، ومن بينها مبنى مقر "مكتب الإرشاد" في القاهرة، والذي تحول في ما بعد إلى مؤسسة تابعة لوزارة الداخلية في القاهرة حتى اللحظة الراهنة (قسم شرطة الدرب الأحمر).
نيران "الإخوان" لم تهدأ ضدّ عبد الناصر على مدار عشرات السنوات، للنيل من سمعته، ووطنيته وعقيدته، والتي غُلّفت بالمئات من الأكاذيب والتلفيقات التي وثقتها مذكراتهم وكتبهم ومواقعهم وقنواتهم، كادعائهم أن عبد الناصر كان ملحداً معادياً للدين، بينما يحكي القيادي "الإخواني" المنشق الشيخ أحمد حسن الباقوري، أول وزير أوقاف في عهد ثورة يوليو، في مذكراته "بقايا مذكرات" التي صدرت في عام 1988، أن عبدالناصر كان مسلماً متديناً، شديد الإيمان، إلى حدّ أنه أصرّ في مؤتمر "باندونغ" في عام 1955 على أن يظلّ صائماً طوال شهر رمضان، ورفض استخدام الرخصة الشرعية التي تعطيه الحق في الإفطار.
ويقول الدكتور عبد العزيز كامل، عضو التنظيم الخاص والقيادي المنشق عن "الإخوان"، في كتابه "في نهر الحياة": "لم يكن جمال عبد الناصر معادياً للدين، ولم يكن ملحداً، بل كان أقرب حكام مصر فهماً لروح الدين ودوره في حياة الشعوب، وأهمية إضفاء المضمون الاجتماعي في العدالة والمساواة عليه"، ويضيف: "كان عبد الناصر مسلماً، شديد التدين في حياته الخاصة وفي تصرفاته العامة".
التلفيقات "الإخوانية" فنّدتها الأفعال العملية للرئيس جمال عبد الناصر، الذي كان أول من اتخذ قراراً بتسجيل القرآن الكريم لحفظه بأصوات المقرئين المصريين، إذ تمّ تسجيله على أسطوانات وزعت على المؤسسات والمراكز الإسلامية في مختلف دول العالم، بصوت الشيخ محمود خليل الحصري، وبرواية "حفص عن عاصم"، بعد ظهور طبعات محرّفة في أوائل الستينات، كما اتخذ قراراً بإنشاء أول اذاعة للقرآن الكريم، وفي عهده تمّ تطوير وتوسيع عدد كبير من مساجد آل البيت.
كما ادّعت جماعة "الإخوان" أن عبد الناصر وضع في إحدى الوثائق السرّية، خطة للقضاء على المشروع الإسلامي بالكامل، لصالح المشروع الشيوعي، وأنه استهدف القضاء على كل مظاهر الحياة الإسلامية في مصر، تحت عنوان "استئصال الإخوان". لكن بعد سنوات طويلة، اعترف يوسف ندا بتزوير الوثيقة، باعتبار أن الحرب خدعة، وأن عليهم تشويه صورة النظام المصري، انتهاء بإشاعات حفلات التعذيب في السجون، والتي تمّت ترجمة أغلبيتها في مذكراتهم الشخصية، مثل كتاب "أيام من حياتي". وثبت كذلك أنه من تأليف يوسف ندا، بهدف تشويه صورة عبد الناصر تاريخياً.
معركة "الإخوان" مع الأنظمة السياسية، والنيل من سمعة ممثليها ورموزها، لم تنتهِ ولن تنتهي في ظل اعتبارهم الصخرة التي تحطّمت عليها أحلام "الإخوان" في السيطرة على المجتمعات العربية، وقطع الطريق أمامهم في الوصول إلى السلطة، ووضعهم في خانة "الفئة الممتنعة" عن تطبيق الشريعة، وفقاً لما أرساه منظّروهم الأوائل، أمثال حسن البنا وسيد قطب، ومن حذا خطاهم.