النهار

"نيران صديقة" في مجدل شمس... فمن هي تلك الصديقة؟
غاندي المهتار
المصدر: النهار العربي
من يضع كل البيض الدرزي في إسرائيل والجولان في سلة واحدة يقع في خطأ فادح "جيوبوليتيكياً". من هذا المنطلق يجب النظر إلى مسألة صاروخ مجدل شمس.
"نيران صديقة" في مجدل شمس... فمن هي تلك الصديقة؟
مشيعون يحيطون بنعوش 10 من أصل 12 طفلاً قُتلوا في الهجوم الصاروخي على ملعب لكرة القدم في مجدل شمس بهضبة الجولان، 28 تموز (يوليو) 2024 (أ ف ب)
A+   A-
في تشرين الأول (أكتوبر) 1973، مشى جندي سوري من دروز جبل العرب من القنيطرة في هضبة الجولان إلى دمشق، حتى التصق "الراينجر" الروسي براحتي قدميه، فاضطر طبيب الإسعاف في مستشفى المواساة إلى سلخه، وانسلخ معه جلد القدمين. لم يكن هذا الجندي قد تماثل تماماً إلى الشفاء حين قال لأهله: "هكذا سلخوا منا الجولان، فبقي جلدنا هناك".
 
اليوم، وقبل أن ينكب محللو الفضائيات على تحليل ما ورائيات سقوط العشرات من دروز مجدل شمس في "هضبة الجولان السورية المحتلة" بين قتيل وجريح، وعلى توظيف هذا الحادث المشؤوم في الترويج لنظريات مختلّة، أظن الطريق الأسلم إلى الحقيقة هي تسمية الأشياء بأسمائها. 
 
يرى بعضنا نحن اللبنانيين أن "صاروخ مجدل شمس" أداة للفتنة بين الدروز والشيعة في لبنان، استكمالاً لـ "ميني" فتنة راجمة صواريخ شويا في حاصبيا، التي صادرها دروز تلك البلدة في 6 آب (أغسطس) 2021، بحجة أنها كانت ترمي صواريخها على إسرائيل من بين بيوت الآمنين. ويحذر هذا البعض من الانجرار في هذا المخطط المرسوم، فيما يدفع بعض آخر في اتجاه "تنشيط" هذه الفتنة، واستثمارها في عائد سياسي غير محسوب، ما دامت الفتنة لا تبقي على شيء.
 
القاسم المشترك بين هذين "البَعضين" هو وضع كل البيض الدرزي في إسرائيل والجولان في سلة واحدة، وهذا خطأ فادح "جيوبوليتيكياً". فلا شيء يجمع بين دروز فلسطين ودروز الجولان... قبِل دروز فلسطين الجنسية الإسرائيلية، ويخدمون في جيشها، ويُقتلون بين قتلاه، ومنهم ضباط كثيرون لقوا حتفهم في الحرب على غزة. هؤلاء مستقرون في حيفا والجليل، وبينهم ضباط ورتباء في اللواء الشمالي بالجيش الإسرائيلي. وفي عملية "سلامة الجليل" التي نفذها الجيش الإسرائيلي في عام 1982، مجتاحاً الجنوب وجزءاً من البقاع وصولاً إلى احتلال بيروت في 12 أيلول (سبتمبر) 1982، جال ضباط دروز من هذا اللواء في القرى الدرزية بقضائي الشوف وعاليه، يتعرفون على أنسباء وأقارب لهم، من منطلق أن "الدروز سلسلة"، تجمع بين حلقاتها عقيدة التقمص. 
 
أما دروز الجولان، فلا يحملون الجنسية الإسرائيلية، بل يرفضونها، ويرفضون الخدمة في الجيش الإسرائيلي، ويصرون على الارتباط بسوريا: منهم من بقي وفياً للحكومة السورية في الحرب الأهلية بعد عام 2011، ومنهم من ناصر "الجيش السوري الحر" وساعد في إسعاف جرحاه في مستشفيات إسرائيلية بعد عسكرة الثورة السورية. وهؤلاء الدروز لا يقاطعون يهود إسرائيل وحدهم، بل يقاطعون دروزها أيضاً، فلا صلات تجمعهم بدروز عرب 1948، حتى إن بعضهم يقول إنهم لا يتزوجون منهم ولا يزوجونهم، لأنهم "خونة".
 
أما وقد وقعت الواقعة، وسال الدم الدرزي في الجولان السوري، يجزم "حزب الله" أن لا يد له في ما حصل، فلا هو أطلق هذا الصاروخ، ولا ينوي أبداً أن يوجه صواريخه إلى أهالي الجولان من السوريين الذين حيدوا أنفسهم عن الذين ساقوا التهم إليه سابقاً باستهداف مناطقهم، ووضعوا المسألة في سياقها العسكري ضمن المواجهة الحاصلة منذ 8 تشرين الأول (أكتوبر). ويتهم "حزب الله" أحد صواريخ القبة الحديدية الإسرائيلية بارتكاب المجزرة، كما يتهم بعض اللبنانيين بالخبث في توجيه السهام إلى "المقاومة". في المقابل، تؤكد إسرائيل أن "صاروخ مجدل شمس" إيراني من نوع "فلق" الذي درج "حزب الله" على استخدامه في المواجهات بالجنوب اللبناني، برأس متفجر زنته 50 كيلوغراماً، أطلقه مسلحو الحزب من شبعا المقابلة لمجدل شمس بقياس "خط النار". ويستخدم الإسرائيليون هذه المسألة برمتها لمضاعفة تهويلهم بفتح نار جهنم على لبنان، حتى أن اليمين المتطرف في الحكومة الإسرائيلية ينادي باجتياح كل لبنان وباغتيال السيد حسن نصرالله، أمين عام حزب الله، رداً على ما جرى.
 
إن التجرد والموضوعية مهمان جداً في هذه المسألة. فردة الفعل الإسرائيلية على مقتل مواطنين غير يهود وغير إسرائيليين يحمل من المبالغة ما يستوي مع "كاد المريب أن يقول خذوني"، وكأن الحكومة الإسرائيلية تعرف في قرارة نفسها أن صاروخها قتل الأولاد هناك. إلى ذلك، إن كانت هذه الحكومة لا تقيم في الأصل وزناً لدروزها الذين ارتضوا خدمة علمها وقتال بني جلدتهم، فكيف تهتم لدروز ما زالوا يرفعون الهوية السورية بوجهها "كلما حزّت المحزوزية"؟ وإن صح ذلك، وما دام الإسرائيلي قد نصّب نفسه مدافعاً عن عين شمس، فهذا الصاروخ من نيران "صديقة" إسرائيلية!
 
إن في الأمر "إنّ"... فتل أبيب لا تُغادر فرصة سانحة للفتنة إلا تغتنمها، وما الدروز في إسرائيل إلا صندوق بريد لرسائل فتنوية معروفة. أليس هذا كان المقصود من رفع صور كمال جنبلاط وسلطان باشا الأطرش في جنازة أحد الجنود الإسرائيليين القتلى في غزة؟ فالجميع يعرف أن جنبلاط من أوائل الشهداء على طريق فلسطين، والباشا من أشد المعادين للظلم والاحتلال، وليس رفع صورتيهما في تلك الجنازة إلا نفخاً في رماد الفتنة بين الدروز والشيعة في لبنان، والدروز والسنة في لبنان وسوريا.
 
وفي تتمة للموضوعية، لا شيء يؤكد أنه ليس صاروخاً لـ "حزب الله" حاد عن مساره. ولا شيء يؤكد نوع الصاروخ، ليكون تحليل الأمر أسهل وأقرب إلى المنطق. لكن، إن كانت بيانات "المقاومة الإسلامية" مقياساً، وفيها أن "المقاومة" أطلقت كذا من صواريخ "كاتيوشا" على هذا الموقع أو ذاك، فإنها تعيدنا إلى أيام "فتح لاند"، والصواريخ التائهة. فالكل يعرف، بعد حرب دامت عقداً ونصف في لبنان، أن الـ"كاتيوشا" ليس صاروخاً يعوّل عليه في إصابة الهدف بدقة. فهل تاه أحدها وسقط بين دروز مجدل شمس، فقُتل من قُتل بنيران "صديقة" مقاوِمة؟ ربما. 
 
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium